التاريخ لايفيد (9)
(صفحات من كتاب مصطفى حامد “التاريخ لايفيد” – قيد الإعداد)
إغتيال السلطان تورانشاه
من كتاب السلوك للمقريزي (ص 455 ج1 ـــ 648 هــ) :
ورحل السلطان من المنصورة ونزل بفارسكور وضرب بها الدهليز السلطاني وعمل فيه برجا من خشب ، وأقام علي لهوه . وكتب إلي الأمير جمال الدين بن يعمور نائب دمشق كتابا بخطة نصه : من ولده تورانشاة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن … ونُبَشِر المسلمين كافة بما مَنّ الله به علي المسلمين من الظفر بعدو الدين فإنه استفحل أمره واٍستحكم شره ، ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد فنودوا لا تيأسوا من روح الله .ولما كان يوم الأثنين مستهل السنة المباركة ، تمم الله علي الإسلام بركتها ، فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال وفرقنا السلاح .
[لم يكن في حرب دمياط لا بذل أموال ولا تفريق سلاح فالسلاح كان ممنوعا علي المصريين والضرائب مفروضة عليهم لا تعطيهم الدولة بل تأخذ منهم ومن يذهب إلي الجهاد يذهب بما لديه وبما يمكن أن يبيعه من ممتلكات أو محاصيل]
ويمضي السلطان قائلا: وجمعنا العربان والمطوعة وخلقا لا يعلمهم إلا الله ، فجاءوا من كل فج عميق ومكان سحيق.
[لأن الفلاحيين جاءوا من جميع القري في بلاد مصر وأن العربان العرب أو من تبقي منهم بعد حملات الإبادة جاءوا أيضاً].
فلما كان ليلة الأربعاء ترك الفرنجة خيامهم وأموالهم وأثقالهم وقصدوا دمياط هاربين ومازال السيف يعمل في أديارهم عامة الليل .
فلما أصبحنا يوم الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألف غير من ألقي نفسه في اللجج (456ص-ج1)
والتجأ الفرنسيس ــ يقصد الملك الفرنسيــ إلي المنية وطلب الأمان فأمناه وأخذناه وأكرمناه ، وتسلمنا دمياط .
[ ملاحظة: أول ما بدأ به السلطان تورنشاة في المنصورة: أخذ المماليك الصغار للأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بدون القيمة ولم يعط شيئا لورثته (أخذهم غصباً) وكان ذلك بقيمة 15 ألف دينار . وأخذ يسب الأمير فخر الدين ويقول: وأطلق السكر والكتان ، وأنفق المال، وأطلق المحاسيب . إيش ترك لي؟؟ (450ص -ج1 ) ].
سنة 648 هـ :
وفي يوم الجمعة الخامس من محرم ورد إلي القاهرة كتاب السلطان إلى الأمير حسام الدين أبي علي نائب السلطنة بالقدوم عليه ، وأقام بدلة في نيابة السلطنة بالقاهرة الأمير جمال الدين أقوش النجيبي عليه ، ووصف ـ أرسل ـ الأمير أبو علي إلي المعسكر فنزل به مُطَرَّح الجانب (مهاناً، مُهْمَلا ) بعدما كان عدة الملك الصالح وعمدته ، وبعث المعظم إلي شجر .
وبعث المعظم إلي شجر الدر يتهددها ، ويطالبها بمال أبيه وما تحت يدها من الجواهر فداخلها منه خوف كثير ، لما بدا منه الهَوَّج والخفة .
وكتبت المماليك البحرية بما فعلته في حقه ، من تمهيد الدولة وضبط الأمور حتي حضر وتسلم المملكة ، وما جازاها به من التهديد والمطالبة بما ليس عندها فأنفوا لها ، وحنقوا من أفعال السلطان . وكان السلطان المعظم (تورانشاه) قد وعد الفارس أقطاي لما أتاه في حصن كيفا بأن يؤمره ، فلم يف له بذلك ، فتنكر له أقطاي وكتم الشر ، فحرك كتاب شجر الدر منه ساكنا .
وأنضاف إلي هذه الأمور ، أن السلطان المعظم أعرض عن مماليك أبيه الذين كانوا عنده لمهماته ، وأطرح ـ هَمَّش ــ الأمراء والأكابر أهل الحل والعقد ، وأبعد غلمان أبيه وأختص بجماعته الذين قدموا معه ، وولاهم الوظائف السلطانية ــ العالية ــ .
وقدم الأراذل : وجعل الطواشي مسروراً وهو خادمه أستادارالسلطان (مدير التشريفات) وأقام صبيحاً وكان عبدا حبشيا فحلاً (الطواشي آمر سجن) الذي سجن الملك لويس الفرنسي أمير جاندار (قائد الفدائيين) وأنعم عليه بأموال كثيرة وإقطاعات جليلة ، وأمر أن يصاغ له عصا من ذهب . وأساء السلطان إلي المماليك وتوعدهم ، وصار إذا سكر في الليل جمع ما بين يديه من الشمع ،وضرب رؤوسها بالسيف حتي تتقطع ، ويقول : (هكذا أفعل بالبحرية) ويسمي كل واحد منهم باسمه ،واحتجب أكثر من أبيه مع الانهماك علي الفساد بمماليك أبيه ، ولم يكونوا يألفون هذا الفعل من أبيه وكذلك فعل بحظايا أبيه .
وصار مع هذا جمع الحل والعقد ، والأمر والنهي لأصحابه الذين قدموا معه فنفرت قلوب ـ المماليك ـ البحرية منه ، واإتفقوا علي قتله ، وما هو إلا أن مدّ السماط بعد نزوله بفار سكود .
في يوم الأثنين السادس عشر محرم ، وجلس السلطان على عادته ، فتقدم اليه واحد من البحرية هو بيبرس البندقداري (بطل معركة المنصورة وقاتل السلطان قطز وصاحب الحملة العسكرية علي أهالي الصعيد وصاحب فتوحات عسكرية عظيمة في بلاد الشام الذي صار اليه ملك مصر. وضربه بالسيف: فتلقاه المعظم بيده فبانت (قطعت) أصابعه والتجأ إلي البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور وهو يصيح : (من جرحني؟) قالو: (الحشاشين) أي جماعة الحشاشين المشهورين بالاغتيالات ، ساخرين منه.
فقال : (لا والله إلا البحرية والله لا أبقيت منهم بقية ) واستدعي المزيِّن ـــ الحلاق ــ ليداوي يده.
فقال البحرية بعضهم لبعض: (تمموه والا أبادكم) فدخلوا عليه بالسيوف ، ففر المعظم إلي أعلي البرج وأغلق بابه ، والدم يسيل من يده ، فأضرموا النار في البرج ، ورموه بالنشاب فألقي نفسه من البرج ، وتعلق بأذيال الفارس أقطاي ، واستجار به فلم يجره، وفرَّ المعظَّم هاربا إلي البحر ، وهو يقول : (ما أريد مُلكا ، دعوني أرجع إلي الحصن ــ كيفا ــ يامسلمين ! ما فيكم من يصطنعني ويجيرني؟
هذا وجميع العسكر واقفون ، فلم يجبه أحد والنشاب يأخذه من كل ناحية . وسبحوا خلفه في الماء وقطعوه بالسيوف قطعا حتي مات جريحا حريقا غريقا ، وفرَّ أصحابه واختفوا .
وتُرِك السلطان المعظم علي جانب البحر ثلاثة أيام منتفخا ، لا يقدر أحد أن يتجاسر علي دفنه ، إلي أن شفع فيه رسول الخليفة ، فحمل إلي ذلك الجانب ودفن فكانت مدة ملكه واحد وسبعين يوما . وقيل مرة لأبيه في الإرسال اليه ، ليحضر من حصن كيفا إلي مصر ، فأبي ، وألح عليه الأمير حسام الدين أبو علي في طلب حضوره فقال : (متي حضر إلي هنا قتلته ) وكان المباشر لقتلة أربعة من مماليك أبيه وكان الملك الصالح نجم الدين لما أراد أن يقتل أخاه العادل ، قال للطواشي محسن : (أذهب إلي أخي العادل في الحبس ، وخذ معك من المماليك من يخنقه .فعرض محسن ذلك علي جماعة من المماليك وكلهم يمتنع الا أربعة منهم ، فمضي بهم حتي خنقوا العادل . وقدَّر الله أن هؤلاء الأربعة هم الذين باشروا قتل أبنه المعظم أقبح قتلة . (458 ص)
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )