الامارة الإسلامية.. 30 عامًا من قهر المستحيل

بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري

مجلة الصمود الإسلامية | السنة الثامنة عشرة – العدد 213 | ربيع الأول 1445 ھ – سبتمبر 2023م  .   

13-09-2023

 

الامارة الإسلامية.. 30 عامًا من قهر المستحيل

– المستحيل خارج أفغانستان، هو الممكن الوحيد في أفغانستان.

– أصبحت الشريعة هي الشعار الذي لا يعلوه شيء في أفغانستان. وبها تم حل المشاكل التي ظلت معلقة بين القبائل لعشرات السنين، وتسفك لأجلها الدماء.

– كان تعليق مولوي حقاني: إن ما حدث هو المستحيل، وهو من بركات الجهاد.

– قال مولوي منصور: هؤلاء الشباب هم من سيحقق حكم الإسلام في أفغانستان، لأن قادة الأحزاب غير مخلصين.

– هؤلاء الشباب أقاموا دولة للإسلام في أفغانستان تحت اسم الإمارة الإسلامية وانتخبوا أميرهم الشاب المجاهد “ملا محمد عمر” أميراً للمؤمنين.

– ملا “بورجان”: رحلة الألف ميل تكفيها خطوة واحدة.. وهكذا فَتَحَ كابل.

– سجلت كاميرات الإعلام الفرار المخزي للأمريكيين وعملائهم الذين تدافعوا للدخول إلى الطائرات. وتعلق بعضهم بالعجلات فتساقطوا عندما ارتفعت الطائرات، وتحطموا فوق أسطح البيوت وفي الشوارع.

– القوات الحكومية المدافعة عن كابل، وجدت نفسها بلا قيادة. وبكل بساطة تركوا أسلحتهم وخلعوا ملابسهم العسكرية في الشوارع وتركوها أكوامًا على الأرصفة.

–  دخل أفراد الإمارة إلى القصر الجمهوري بكل بساطة، وتسلّموا جميع الوزارات والمقار الحكومية بكل هدوء وبدون انتقام أو اشتباكات.

 

تحميل مجلة الصمود عدد 213 : اضغط هنا

 

 

بقلم  : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري

 

ثلاثون عامًا من المعجزات وقهر المستحيل. ذلك هو ملخص حياة الإمارة الإسلامية؛ فهي مجموعة من المزايا الأخلاقية الفريدة لشعب أفغانستان. إذ لا يمكن حصر التحديات التي واجهت أبطال الإمارة الذين أسّسوا الإمارة الإسلامية بدمائهم. فالاحتكام العقلي إلى الظروف السائدة يوصلنا إلى نتيجة واحدة لا غير، وهي أنّ ما فعله شباب الإمارة تحت قيادة علماء أفغانستان هو عمل مستحيل.

ولكن المستحيل خارج أفغانستان هو الممكن الوحيد في أفغانستان. يقول البعض إنّ الأفغان لا يعترفون بالمستحيل. ولكنهم يعرفون أنه أقصر الطرق لتحقيق أمنياتهم وتغيير الواقع، مهما كان ثقيلًا ومظلمًا ومدعومًا بكل القوى الأرضية. فذلك من سمات ذلك الشعب الذي يعيش على أرض أفغانستان بكافة أعراقه وقبائله وانتشاره الجغرافي شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا. من الصحارى الملتهبة إلى الجبال المتجمدة.

من غير الممكن حصر جميع النماذج الدالة على ذلك، ولكن سوف نسوق بعض الأمثلة التي يجب أن ننتبه إلى أنها غير حصرية في الزمان أو المكان أو الأشخاص.

 

أفغانستان..أرض الحرية والإسلام

منذ أن وطأت قدماي لأول مرة أرض أفغانستان قبل أكثر من أربعين عامًا انتبهت إلى أنّ تلك الأرض مليئة بالأسرار ومكامن القوة غير الظاهرة للعيان، ولكنها محسوسة للوجدان والروح.. وبكل قوة.

ومن أوّل نسمة هواء لنا داخل أفغانستان شعرنا بتلك الروح تسري في أبداننا، حتى ظننت أننا نتحول إلى حالة جديدة من الوجود البشري.

معظم من دخلوا أفغانستان من الشباب كانوا منذ خطواتهم الأولى يقولون (إن الهواء هنا مختلف). الهواء لم يكن منعشًا فقط، بل كان يشعرنا بالحرية ويقظة الروح التي صدئت بداخلنا.

نسائم أفغانستان كانت بالنسبة لأكثرنا نسائم التطهر. وقابلنا هناك شبابًا ورجالًا إيمانهم ليس له حد. وشجاعتهم الفطرية ممتزجة بكيانهم، مع العظم واللحم والدماء. والإيمان كان هوالفضاء الرحب الذي ضمّ كل ذلك.

من قابلتهم في رحلتي الأولى إلى أفغانستان سقط معظمهم شهداء قبل أن يشاهدوا يوم النّصر على الجيش الأحمر السوفيتي والنظام الشيوعي المحلي. ومن أدركوا ذلك الانتصار، لم تكد تصلهم الفرحة حتى صدمتهم انحرافات النظام الذي أسسه قادة أحزاب بيشاور، وفق أطماعهم في البحث عن المال والسلطة. فداسوا على شعارات إسلامية ردّدوها لسنوات قبل أن يتّضح أنهم لم يكونوا صادقين فيها، بل كانت هي أداتهم لممارسة التجارة في سوق السياسة.

فما أن وصلوا إلى حكم كابل حتى أطلقوا العنان لغرائزهم، وجذبوا البلاد إلى مستنقع الحرب الأهلية لسنوات، إلى أن تجمع الشعب الأفغاني تحت راية شباب العلوم الشرعية (الطالبان) بقيادة زعيمهم الشاب “الملا محمد عمر مجاهد” الذي أصبح أميرًا للمؤمنين بعد أن فتح كابل ورفع عاليًا راية الإسلام وشعاره.

هنا عادت الروح الأفغانية إلى عروق الشعب مرة أخرى. وتحت راية الإمارة الشابة وجيشها من طلاب الشريعة الإسلامية ورجال القبائل الأشداء، قاتلوا لمدة خمس سنوات لتطهير البلاد من العصابات الإجرامية وبقايا أتباع الأحزاب الذين تحولوا إلى عصابات مسلحة تتقاسم الأراضي والطرقات والقتل والسطو وتتنازع على توسيع مناطق السيطرة.

-القليل جدًا ممّن قابلتهم في رحلتي الأولى ظلوا أحياء وعاصروا تلك الأحداث. والعديد من أبطال الجهاد ضد السوفييت سقطوا شهداء في معارك الجهاد ضد الإجرام الحزبي في كابل. وقاتل جميع المخلصين تحت راية الإمارة الإسلامية ورأوا بأعينهم الرايات البيض تنتشر في سماء أفغانستان.

 

الشريعة قانون الأمة

أصبحت الشريعة هي الشعار الذي لا يعلوه شيء آخر في أفغانستان. وبها تم حل المشاكل الداخلية التي ظلت معلقة بين القبائل لعشرات السنين، تسفك لأجلها الدماء وتنتهك الحقوق لتكون الغلبة للأقوى، وليس للحق أو للعدل.

وأذكر يوم أن قال مولوي (إحسان الله إحسان) لأهالي خوست عندما دخلها على رأس قواته لأول مرة، وقال للقبائل المجتمعة لصلاة الجمعة في المسجد الكبير: “لقد جئنا لتطبيق الشريعة علينا وعليكم وعلى الجميع بلا تفرقة. فمن قبلها قبلناه. ومن عصى وتمرد قاتلناه. موعدنا بعد صلاة الجمعة القادمة. وسوف أجلس للفصل في القضايا المعلقة طبقا لأحكام الشريعة. فالقاتل سوف يقتل، والسارق سوف تقطع يده، ولن نسمح لأي قبيلة بحماية أحد، وإلا قاتلناها. أمامكم أسبوع واحد لحل جميع المشاكل قبل أن ترفعوا شكاواكم عندي لحلها بأحكام الشريعة”. أتذكر ذلك كما يتذكره جميع سكان خوست في ذلك الوقت.

(كنا نحن العرب، أقل من 15 شخصًا، مازلنا نشغل معسكرين من بقايا القاعدة في الجبال ولم نغادرها). وبعد أسبوع كانت قبائل خوست ــ الخشنة وصعبة المراس ــ في عيد حقيقي غير مسبوق بالمرة. فيوم الجمعة لم يجد مولوي إحسان الله قضية واحدة ترفع إليه. فقد حُلَّتْ جميع القضايا وعادت الأموال المسروقة، ودُفِعَت ديات القتلى، وكأن شيئا لم يحدث في خوست قبل ذلك. هذا المستحيل الذي تحقق في خوست حدث مثله الكثير في أرجاء أفغانستان. لقد كان ذلك هو المستحيل بعينه، ولكنه في اليد الأفغانية صار هو الطريق الوحيد لإنجاز ما يجب إنجازه.

 

دوستم أعاد المسروقات

مستحيل آخر شهد عليه مولوي جلال الدين حقاني، واصفًا إياه: “إنه من المستحيلات الكبرى التي تحققت بفضل هذا الجهاد”. والمناسبة كانت أن أحد قادة عبد الرشيد دوستم قائد المليشيات المتوحشة الشهيرة (جليم جم)، صادر شاحنة كبيرة معبأة بالذخائر، كنا قد أرسلناها من خوست إلى مجاهدي طاجكستان في ولاية (تخار) شمالي البلاد.

صديق لنا كان يعرض المشكلة على حقاني في أحد المراكز القريبة من كابل. وكان حقاني يحاول إقناعه أن استعادة تلك الشاحنة مستحيل. وفي تلك اللحظة دخل عليهم حكمتيار قائد (حزب إسلامي أفغانستان) وقال إن المشكلة بسيطة وسوف يحلها مع حليفه في ذلك الوقت (عبد الرشيد دستم). وهذا ما تم بالفعل. وكان تعليق مولوي حقاني على ذلك أن ما حدث هو المستحيل بعينه.

وما زال المستحيل هو الممكن الوحيد في أفغانستان، الذي به حققت الإمارة الإسلامية أهدافها الكبرى، وتواجه به أعتى التحديات.

 

تحميل مجلة الصمود عدد 213 : اضغط هنا

 

جنود الإمارة والمستحيل: بداية الطريق

ترجع بداية العلاقة بين المستحيل وجنود الإمارة إلى صيف عام (1981). وقد أطلعني عليها في ذلك الوقت، مولوي نصر الله منصور رحمه الله.

فقال إنه قد بدأ بالفعل في تأسيس قسم خاص لطلاب الشريعة الإسلامية داخل منظمته الجهادية (حركة انقلاب إسلامي).

ثم قال ساهما وكأنه يقرأ من كتاب الغيب “هؤلاء الشباب هم من سيقيم حكم الإسلام في أفغانستان، لأن قادة الأحزاب غير مخلصين في ادعاءاتهم، وأنا أشك حتى في إسلامهم، فأهدافهم كلها شخصية. ولن يتوحّدوا إلا في الأعمال التي تضر بالجهاد والمجاهدين”. ثم تابع قائلا: “داخل تنظيمنا (حركة انقلاب إسلامي) افتتحنا لطلاب العلوم الشرعية معسكراً للتدريب العسكري، وأتحنا لهم مجالات للتدريب الإداري في بيشاور، وقد تولوا قيادة العمل العسكري في عدة جبهات”.

ولكن ما أن ظهر مجهوده وشعرت به باقي التنظيمات الحزبية في بيشاور حتى افتتح أكثرها أقساما لطلاب الشريعة الإسلامية حتى لا يتركوا مولوي منصور منفردًا في ذلك المجال. (استشهد مولوي منصور في عام 1992 بتفجير سيارته في جرديز في حادث غامض).

من أكثرالزعماء جدية في تطبيق الفكرة ودعمها كان مولوي محمد يونس خالص زعيم حزب إسلامي. ولكن مولوي منصور كان صاحب المبادرة الأولى في ذلك المشروع المستحيل، الذي تحقق بشكل لم يكن متخيلًا بأي شكل. فهؤلاء الشباب أقاموا دولة للإسلام في أفغانستان تحت اسم الإمارة الإسلامية وانتخبوا أميرهم الشاب المجاهد (ملا محمد عمر) أميراً للمؤمنين في تلك الدولة.

 

 

ملا (بورجان)..رحلة الألف ميل تكفيها خطوة واحدة

فَتْح طالبان لمدينة كابل (أكتوبر1996) كان من الأحداث المستحيل تصورها. كما أنه كان إعجازيًا في طريقة حدوثه. كان رئيس الجمهورية وقتها هو “برهان الدين رباني”. أما وزير دفاعه أحمد شاه مسعود فكان هو الرجل الأقوى في النظام ويمتلك أكبر قوة ضاربة في البلاد، يعاونه أكبر جنرالات الجيش والمخابرات في النظام الشيوعي السابق.

سمعنا في جلال آباد أن كابل قد فتحت على النحو التالي:

توقفت قوات الإمارة على مسافة من المدخل الشرقي للعاصمة -من جهة جلال آباد- وتهيبوا من دخول العاصمة، لأن المدخل كان عبارةعن منطقة قتل تركزت عليها أسلحة مسعود وقواته.

(ملا بورجان) كان هو قائد قوات طالبان التي دخلت جلال آباد سِلْماً.. وتهيأت لاقتحام عنيف للعاصمة كابل (على بعد 120 كم). وكأن الشهيد الملا بورجان يُطَبِّق بشكل معكوس نظرية “ماو تسى تونج” الزعيم الصيني، والقائلة بأن “رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة”. فقد كان يعتقد، وينفذ بالفعل، نظريته الخاصة القائلة: “رحلة الألف ميل يمكن قطعها بخطوة واحدة من خطوات الملا بورجان”.. وهكذا فتح كابل.

فهو لم يطق صبراً. وأمر سائق سيارته (شاحنة بيك أب)، بالاندفاع إلى داخل المدينة، وعبور منطقة القتل. وهذا ما حدث، ولكن السيارة تلقت سيلًا من الطلقات أصاب بعضها ملا بورجان فقتل في مكانه.

سائق السيارة نزل بها تحت أحد الجسور التي على الطريق، واتصل بالمخابرة مع باقي القوات وأعطاهم خبرًا غير صحيح بأنّ ملا بورجان بخير، وأنّهم قد عبروا المدخل الشرقي ووصلوا إلى بداية المدينة.

كانت (قوات مسعود) تستمع أيضًا إلى تلك المكالمة فانهارت معنوياتهم وبدأوا بالفرار. قوات طالبان أيضًا تلقت الرسالة وتحركوا على الفور (بسيارات البيك أب) وعبروا المدخل الشرقي ومنطقة القتل متّجهين صوب العاصمة ولم يواجهوا مقاومة.

أما رئيس الجمهورية وكبار الوزراء (سياف ـ حكمتيار ـ وآخرين) فقد ركبوا سياراتهم الفخمة وهربوا بها شمالا في اتجاه نهر جيحون. وهناك وقفوا منتظرين أي قارب ينقلهم إلى دولة طاجكستان المجاورة.

ولما سمعوا أن طالبان قد توقفوا في كابل ولم يطاردوهم، توقفوا هم أيضًا، وبدأوا في التحضير مع الجيران في طاجكستان وأوزبكستان وبعون خارجي من أمريكا وحلفائها للقتال ضد طالبان (وإعادتهم إلى مدارسهم حسب القول المفضل لدى رباني وكبار الوزراء عنده).

 

الاحتلال، وطبيعة المستعمر الفتح، وطبيعة الفاتحين

خلال 4 عقود شهدت العاصمة كابل ثلاث عمليات احتلال. أتبعها ثلاث عمليات فتح وتحرير. إنها 6 عمليات من التدافع العنيف، من الكر والفر، شهدتها العاصمة، مع ما رافقها من تحولات جذرية في كل شيء، سواء على المستوى المحلي أو الدولي.

تتابعت العواصف الحارقة على أفغانستان والعاصمة كابل على الترتيب التالي:

1 ـ الاحتلال السوفيتي (ديسمبر 79 ــ مارس 89).

2 ـ احتلال الأحزاب والمليشيات (أبريل 92 ــ أكتوبر 96).

3 ـ الاحتلال الأمريكي (نوفمبر 2001 ــ أغسطس 2023).

 

 

1 ــ الاحتلال السوفيتي للعاصمة كابل

كان لكل احتلال ملامحه الخاصة. فعملية الاحتلال السوفيتي تميزت بالاحترافية العسكرية العالية، حتى وصفها خبراء بأنها أكبر عملية إبرار جوي بعد الحرب العالمية الثانية. كانت الحكومة الشيوعية في كابل مهددة بالسقوط، ولكنها حتى لحظة غزو الجيش الأحمر ظلت متماسكة ومسيطرة على العاصمة وباقي المدن. وهذا وفّر على الجيش الأحمر السوفيتي مجهودات كبيرة. فلم يكن مضطرًا لخوض قتال على الأرض في لحظة هبوطه. لذا كانت العاصمة والمدن الكبرى هادئة حتى ظن السوفييت أنّ الوضع قد ترسخ تحت أقدامهم بتلك السهولة.

وعندما انسحب السوفييت من أفغانستان في مارس 89 كان النظام الشيوعي مازال واقفًا على قدميه رغم ضعفه الشديد، ورغم الانتصارات الكبيرة للمجاهدين وسيطرتهم على معظم أفغانستان. وتمكّن النظام الشيوعي من الاستمرار عدة سنوات بعد ذلك بسبب أخطاء الأحزاب في بيشاور والتدخلات الدولية لمنع انتصار المجاهدين.

 

 

2ــ احتلال الأحزاب والمليشيات للعاصمة كابل

سقط نظام كابل في أبريل1992 باستسلام مدينة جرديز لمولوي جلال الدين حقاني. وقبل ذلك فتح المجاهدون مدينة خوست في حملة عسكرية ناجحة قادها مولوي جلال الدين حقاني في مارس 1991.

استسلم نظام كابل لحكومة تم تأليفها في بيشاور تحت رعاية دولية غير مباشرة بهدف عدم تمكين المجاهدين الميدانيين من الانفراد بالحكم. فوضعوا قادة الأحزاب (ومن ينوب عنهم) في صدارة الجهاز الحاكم الجديد في كابل، على أن يشارك رجال النظام السابق في الصف الثاني من الحكم. حتى إن رئيس الجمهورية الشيوعي (نجيب الله) ظل مقيمًا لدى الأمم المتحدة في مبنى لها قريب من القصر الجمهوري، يمارس بعض الصلاحيات، إلى أن حررت حركة طالبان العاصمة وأخرجته من وكر الأمم المتحدة ونفذت فيه حكم الإعدام.

بهذا الشكل المختلط في الحكم كان الوضع في كابل فوضويا إلى أقصى درجة. فالمليشيا الشيوعية (جليم جَمْ) التابعة لعبدالرشيد دوستم انتقلت بالطائرات من شمال أفغانستان إلى كابل لتمارس السطو والقتل وشتى الجرائم التي لم يعهدها سكان العاصمة حتى في عهد الاحتلال السوفيتي.

وتحوّل الجزء الأكبر من أتباع أحزاب بشاور إلى ميليشيات منتشرة على كل ساحات أفغانستان، وتدافع الكثير منهم نحو كابل، ليعيشوا فيها على السلب والنهب. فحضر عشرات الكومندانات إلى العاصمة، ومن ضمن ما غنموه كان فندق انتركونتننتال. وقد احتل كل كومندان منفرداً أو مع أصدقائه غرفة أو أكثر. يعيشون فيها مجانًا، الطعام والمبيت، على حساب الفندق هم وأسلحتهم كاملة. بلا إذن أو سلطة من أحد عليهم. فكان ذلك الفندق رمزًا لتلك المرحلة من الاحتلال الهمجي للعاصمة بواسطة الأحزاب والمليشيات وقادة العصابات المسلحة التي لا يحكمها أحد، ويمكنهم فعل أي شيء بلا تردد.

(ذلك الفندق في حد ذاته كان تحديًا ثقافيًا غربيًا للأفغان. وعندما بدأت أمريكا قصفها الجوي على أفغانستان في أكتوبر 2001 قال لي أحد كوادر طالبان: إن بلادنا مدمرة وليس بها شيء سليم يستحق القصف، سوى فندق انتركونتننتال في كابل.. ولا بأس من قصفه). ومع ذلك لم يقصف الأمريكان الفندق. وبعد الاحتلال عملوا على إصلاحه وتحسينة وبناء المزيد من الفنادق و”المولات” والمطاعم الحديثة، للتسريع في تغريب كابل ثقافيًا وأخلاقيًا على خطى الحضارة الغربية.

 

الفتح الثاني: التحرير من فوضى الأحزاب والعصابات

ذلك هو الاحتلال الذي تخلّصت منه حركة طالبان عندما اقتحمت العاصمة وحررتها في أكتوبر1996، وأعلنت قيام الإمارة الإسلامية برئاسة قائد الحركة (الملا محمد عمر) الذي انتخبه (مجلس الشورى العام) أميراً للمؤمنين.

واضح أنّ حياة السكان في كابل أثناء مرحلة احتلال الأحزاب للعاصمة كانت هي الرعب بعينه وفقدان الأمن. ويعتبر فتح حركة طالبان للعاصمة كابل في أكتوبر 96 وهو الفتح الثاني للعاصمة بعد الاحتلال السوفيتي. أو يمكن اعتباره “تصحيحا” لعملية الفتح التي تمت في إبريل92 واختطفها التدخل الدولي وأعطاها لقادة الفساد والأحزاب والمليشيات التي كان عنوانها حكومة “صبغة الله مجددي” التي تشكلت في بيشاور وذهبت لتحكم كابل.

عملية “تصحيح الفتح”، أعقبها إعلان الإمارة الإسلامية. وقد ذكرنا كيف قاد (ملا بورجان) عملية الفتح، وكيف استشهد عند مدخل شرق كابل.

عملية “تصحيح الفتح” كانت تحتوي علامتان مهمتان: الأولى هي فرار رئيس الدولة (برهان الدين رباني) ومعه جميع الوزراء (حكمتيار ـ سياف ـ إلى آخره). والعلامة الأخرى أنّ الفتح كان خاليًا من عمليات الانتقام؛ فلم تُشاهَد جثث في الشوارع أو اقتحامات للبيوت. لأنّ عملية إخلاء المدينة من المعارضين قد تمت اختياريًا قبل وصول طالبان بعدة أسابيع.

 

3 ــ الاحتلال الأمريكي للعاصمة كابل

قوات تحالف الشمال التابعة لرئيس الجمهورية الهارب (برهان الدين رباني)، شملت جميع المليشيات التي هربت من كابل، أو طردتها حركة طالبان من مناطق سيطرتها. هؤلاء تمكنوا من دخول كابل في نوفمبر2001 بعد أن تحطم خط دفاع طالبان بقصف الطائرات الأمريكية (بي 52).

كان حادث 11 سبتمبر في نيويورك مجرد ذريعة لتبرير العدوان على أفغانستان، والانتقام من الإسلام ومنعه من الحياة بحرية فوق تلك الأراضي، بين ذلك الشعب عظيم الشجاعة والإيمان.

قال قائد سابق في حلف الناتو: لقد ذهبنا لأفغانستان ليس للانتقام لأحداث 11سبتمبر ولكن لكي نصنع للأفغان إسلامًا يناسبنا.

فشهدت كابل من الاحتلال الأمريكي ما لم تشاهده طوال تاريخها من العدوان الوحشي والتصرفات الهمجية من أناس يشبهون البشر ولكنهم يتفوقون على أشد الحيوانات توحشا. فقد اقتُحِمَت البيوت وسُحِبَ منها السكان ليقتلوا في الشوارع. وأقيمت حفلات الموسيقى والرقص المختلط حول الجثث النازفة تحت كاميرات الإعلام الدولي الذي التزم الحياد وكأنه يصور مناظر طبيعية خلَّابة وليس عمليات قتل جماعي.

وتمّ اعتقال الآلاف من الأفغان، ومن الأجانب في باكستان، واتهامهم بالإرهاب الدولي، واختراع سجون خارج جميع القوانين، مثل معتقل جوانتاناموا في كوبا. والسفن الحربية التي استخدمتها أمريكا (سجونا عائمة). وسجون في جزر بالمحيطات، مثل جزر (جوام) التي تحوي قواعد عسكرية. وسجن أمريكي داخل أهم قواعدها في أفغانستان (قاعدة بجرام الجوية).

وكان التعذيب هو القاسم المشترك بين كل تلك السجون لغاية انتقامية. وقالوا إنّ الأمريكان يعذبون السجناء لانتزاع الاعترافات لمنع وقوع عمليات إرهابية أخرى.

 

الفتح الثالث لمدينة كابل (15 أغسطس 2021)

أتمّت قوات الغزو الأمريكية انسحابها من أفغانستان في 15 أغسطس 2021 وكانت في الحقيقة في حالة فرار لدرجة أنها لم تنسق مع حلفائها المشاركين معها في الغزو وكانوا حوالي 48 دولة. وكانت كابل تشهد انسحاب موظفي السفارة الأمريكية عن طريق مطار المدينة ومعهم عدد من العسكريين الأمريكيين والأجانب.

وسجلت كاميرات الإعلام الدولي ذلك الفرار المخزي للأمريكيين وعملائهم المحليين في ذلك اليوم، حيث تدافع العملاء للدخول بالقوة إلى الطائرات المغادرة، وتعلق بعضهم بالعجلات، فتساقطوا فوق مدينة كابل عندما ارتفعت بهم الطائرات، ليتحطموا فوق أسطح البيوت وفي الشوارع.

وقبلهم جميعًا كان رئيس الجمهورية (أشرف غني) قد غادر على متن طائرة خاصة، وبصحبته الكنوز التي نهبها، غير المليارات التي هرَّبَها إلى البنوك الغربية خلال سنوات حكمه.

القوات الحكومية من الجيش والأمن المدافعة عن كابل، وجدت نفسها بلا قيادة. فأقطاب النظام قد هربوا وتركوهم يلاقون مصيرهم، وجه لوجه مع جنود الإمارة.

وبكل بساطه تركوا أسلحتهم وخلعوا ملابسهم العسكرية في الشوارع وتركوها أكوامًا على الأرصفة. وذهبوا إلى حال سبيلهم. لهذا لم تحدث أي اشتباكات أثناء فتح كابل. ودخل أفراد الإمارة إلى القصر الرئاسي. وتسلموا جميع الوزارات والمقار الحكومية بكل هدوء وبدون انتقام أو اشتباكات، وبالقليل جدًا من الاعتقالات، لأنّ جميع المجرمين الذين ارتكبوا الجنايات الكبرى قد عرفوا ما ينتظرهم، فهربوا منذ وقت مبكر.

 

 

تحميل مجلة الصمود عدد 213 : اضغط هنا

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )

www.mafa.world