التاريخ لايفيد (11) .. لعبة الأمم في المنطقة المركزية الإسلامية

التاريخ لايفيد (11) 

(صفحات من كتاب مصطفى حامد “التاريخ لايفيد” – قيد الإعداد)

 

لعبة الأمم في المنطقة المركزية الإسلامية

بعد صلاح الدين

 

توفي صلاح الدين الايوبي بعد حملته العسكرية الكبرى في بلاد الشام والتي استمرت عاماً وشهرين أهم نتائجها كان تحرير القدس وضمها إلي مملكة الشام ضمن التقسيمات الإدارية لتقسيم أراضي إمبراطوريتة بين أبنائه. ووزع أراضي في الشام لأقرب أعوانه ، كإقطاعات وحرر بلدات كثيرة ومدن.

وفي نهاية عهده ظهر عمليا أن الطوفان الأيوبي كان محسوبا من الناحية العرقية للقوميه الكردية . التي أصبحت بعد (الفتح الصلاحي) في تلك الحملة هي القومية الأقوي والأغني . ضمن خريطة من القوميات المتصارعة علي المنطقة بدوافع مختلفة إقتصادية وإستراتيجية ودينية .

أهم مكونات القوة القومية المتصارعة كانت لحظة وفاة صلاح الدين هي الاكراد في الصدارة ومركز قوتهم الشام ومصر واليمن وجزيرة العرب وبلاد الأكراد  فيما يسمي عراق العجم شمال العراق ومساحات بين بلاد فارس. وهضبة الأناضول التي استوطنتها القبائل التركية المسلمة ونشأت فيها الإمبراطورية العثمانية في وقت لاحق . وفيها قامت دولة السلاجقه ولعبوا دورا كبير في المنطقة قبل أن يقضي التترعلي دولتهم حتي ورثتهم دولة العثمانيين .

القوة الثانية في الشام كانوا الصلبيين وأهدافهم كانت اقتصادية واستراتيجية ودينية. وقد خبروا المنطقة لفترة طويلة وفهموا أسرارها ورادهم الأمل في السيطرة عليها جميعا. ولديهم أسباب وجيهة لهذا الشعور .

القوة الثالثة هم قوة المماليك الأتراك في مصر. الذين أزاحوا الدولة الأيوبية . وأقاموا دولتهم ذات القومية التركية وهم توأم الدولة الأيوبية ونشأوا من داخلها .

فقد ظهر المماليك كقوة عسكرية مقاتله علي يد السلطان نجم الدين أيوب الذي أسس المماليك البحرية ـ عماد الدولة المملوكية .

بدأ المماليك دولتهم بعد انتصارهم في حرب دمياط علي الحملة الفرنسية بقيادة لويس التاسع . وموت السلطان نجم الدين في أواخر المعركة. فتولت زوجته شجر الدر القيادة الفعلية للدولة . ثم تزوجت الاتابك ” عز الدين أيبك التركماني وكان مملوكا لدى السلطان . ودخلوا في صراع عنيف مع ملوك الأسرة الأيوبية في الشام . تورط فيها كل اللاعبين في ساحة المنطقة المركزية الإسلامية بما فيهم التتار والصلبيين . وكلاهما بحسابات مختلفة يريد ابتلاع كل المنطقة التي ظهر تفككها وضعفها رغم مظاهر مازالت باقية لقوة عسكرية ما زالت فاعلة وتشكل خطرا.

القوة الرابعة : قوة الخوارزميين من آسيا الوسطي وقد بدأ التتار زحفهم علي العالم ، بتدمير مملكة الخوارزميين الذين اعتدوا عليهم واستثاروهم بحماقة.

كان الخوارزميون وما زالوا أبطالا مقاتلين ومتحمسين باندفاع ديني كبير فكان ذلك سببا في وقوعهم في أخطاء عديدة لازمتهم حتي عند عودتهم إلي المنطقة العربية مع تنظيم داعش .

فكانوا يرون الشعوب الإسلامية التي اختلطوا بها ليسوا في مستوى الإلتزام الإسلامي المطلوب والأنظمة الإسلامية شكلية وغير جادة في التزامها الديني.

حتي خليفة المسلمين لا يمكنه أن يقدم الدعم لاي شعب مسلم يتعرض للعدوان  بل لا يمكنه الدفاع عن عاصمته بغداد .

وقد طلب الخليفة من السلطان خوارزم شاه أن يحمي بغداد في عدة مناسبات ضد الغزنويين الأفغان وضد السلاجقة وضد التتار. فطلب منه السلطان ينتقله هو الي بغداد وجعلها مقر خلافته. لكن الخليفة أسرع إلي التتار وطلب منهم القدوم وإحتلال بغداد حتي لايأخذها الخوارزميون. وكانت تلك بداية لإحتلال التتار. فالخليفة التالي له، وجد الحل بتجنيد آلاف الجنود التاتار في جيش الخلافة للدفاع عن بغداد، في احتلال تتري غير مباشر عن طريق المرتزقة .

ثم جاء آخر الخلفاء المزيفين والمسمى بالستعصم بالله، وصرف الجيش لتوفير المال علي الترفيه والغواني حتي قبض عليه التتار من صالة الترفيه في القصر الخلافي في بغداد .إذ لم يجدوا أمامهم جيش يقاومهم سوى إخوانهم المرتزقة التاتار في جيش الخلافة.

هو نفسه الخليفة الذي وجه اللوم لمماليك في مصر لتوليتهم أمرأة علي عرش  البلاد وتلك المرأة تصدت لمسئوليات جسيمه وقت الحرب وقادت الدولة والجيوش وانقذت البلاد . وهو مالا يستطع  الخليفة الراقص مجرد التفكير فيه.

ـ الخوارزميون المتحمسون الناقمون. عبروا بالسيف عن نقمهم علي إنحراف المسلمين العامه والحاكمين وارتكبوا مجازر ضد الأكراد والعرب والترك واستعادوا القدس الذي تنازل عنه الملوك الأيوبيين للصليبيين وأعملوا السيف بلا رحمه في دمشق وحماه وحلب .

ووقفوا علي أبواب غزة يطلبون الأذن من السلطان نجم الدين أيوب لدخول القاهرة. وكان قد تعلم ماذا يعني دخول الخوارزميون إلي عواصم الإسلام فطلب منهم عدم المجئ إلي القاهرة. وذهب إليهم في غزة فأنقذ بذلك حياة آلاف المصريين.

والتقي الخوارزميون ومعهم جيش مصر مع الجيش الصليبي المتحالف مع ملوك الشام . وأوقعوا بهم هزيمة شنيعة.

أدرك عندها الصلبييون خطورة الصدام المسلح المباشر ضد الخوارزميون والمماليك الأتراك (المماليك البحرية المصريين ).

هُزِم الخوارزميون في الشام علي يد تحالف واسع رسمي وشعبي فخرجوا من الشام فقد ضاقت شهوب الفتن بصرامة وصرحة الخوارزميين المسلحين بسيوف قاطعة لا تعرف الرحمة.

أما المماليك الاتراك فقد تمكن أولاد قلاوون خلال الدولة المملوكية من تحرير الشام بالكامل من التواجد الصليبي بعد احتلال دام حوالي قرنين من الزمان وهو الإنجاز المملوكي الذي لم يستطع صلاح الدين ولا دولته الأيوبية من تحقيق جزء منه .

حروب العهد الأيوبي في الشام كانت في أغلبها معارك شخصية بين ملوك غير طبيعيين أعماهم جنون السلطة واستهلكوا ثروات عظيمة وأهدروا قوى  بشرية كانت كافية  لبناء دولة عظيمة. شركائهم فى الشام وهم الصليبيين كانوا بالنسبة لهم فريق يمكن أن يتحول إلي حليف أو عدو حسب تقلبات السياسة الأيوبية المنفلتة من معايير الدين والعقل.

أهم معارك الأيوبيين مع الصليبين كانت:

1 ــ معركة دمياط في مصر .

2 ـ معركة صلاح الدين في أجنادين وطبرية.

3ـ معركة صلاح الدين في عكا وكانت الأكبر له في الشام ودارت على مرحلتين.

تكلمنا عن معركة دمياط بشئ من التفصيل. اما معركة اجنادين كانت مقدمة حقيقية لفتح القدس لان معركة القدس كانت معركة صغيرة الحجم من ناحية عسكرية. وإن حظيت بقيمة دينية ودعائة كبيرة ويكفي أنها استغرقت يومين فقط ، وأسفرت عن دفع غرامات  (مخالفات مالية) في مقابل رحيلهم إلي مستعمرات صليبية أخري خاصة في صور .

حتي أن معارك صلاح الدين لم تكن معارك لتحرير الشام بقدر ما كانت لإعادة توزيع القوات الصليبية في الشام (بعد تغريمهم مخالفة احتلال ، وليس تعويض مثلا). حتى أن ملك فرنسا أفرجوا عنه من الأسر في دمياط ولم يدفع سوى نصف الفدية المقررة عليه. ومازالت فرنسا مدينة  لمصر بباقى المبلغ ” مئتى ألف دينار ذهبي” أو أن تسلم رئيس جمهوريتها ليقضى محكومية السجن في مصر.

ومعركة حطين تميزت بالفكرة التكتيكية الذكية والبراعه في إستخدام طبيعة الأرض والمناخ و سوء تنظيم الخصم للجيوش و سوء اعدادهم لمعركة في صحراء حارة بلا إمدادات أو مياه كافية.

معركة عكا تميزت بالضراوة سواء في المعركة الأولي أوالثانية .

أما معركة طرسوس في سوريا فقد تميزت بالقسوة الشديدة والانتقام .

(كان الصليبيون قد جهزوها سابقا للقفز منها علي القدس) .

 

سباق أيوبي للتحالف مع الصليبيين

تسابق ملوك البيت الأيوبي في مصر والشام علي التحالف مع الصليبيين مقدمين عروضا متساوية تقريبا في التنازل عن القدس ومدن وحصون ساحلية بالشام ويبدو أن الصليبيين فضلوا التحالف مع ملوك الشام لان الأرض المطلوبة موجودة عندهم .

هذا أضافة إلى أن سلطان مصر دفع الكثير مقدما لإغراء الفرنجة فهدم حصون غزة (ملوك الشام لم يبقوا فيه حصنا أو قلعة تذكر وبدأ صلاح الدين بذلك ).

ولكن في مصر لم تكن هناك أي ضرورة لهدم حصون دمياط وتعرياها تماما من الدفاعات بدأ بذلك الأيوبيين وتابع المماليك في بداية عهدهم إلي أن انتبهوا خطأهم خاصة في عهد القائد الفذ الظاهر بيبرس ).

في مصر أيضا خربوا دفاعات الأسكندرية وأطلقوا الكثير من الحربات لبابا اوروبا في الأسكندرية سواء في الضرائب أو تجارة الخور والملاهي والبغاء (حتي أسموا داء الزهرى في مصر : الفرنجي ) وبعض ذلك واضح في نقاشات امبراطور المانيا مع الأيوبيين في طلبه منهم تسليم كل ما أخذه صلاح الدين في الشام (واطلاق الحقوق في الأسكندرية ، وهي الحقوق التي ذكرنا جزء منها .

العوام في الإسكندرية في عهد: بيبرس، ثاروا علي التواجد الأوروبي وقاموا بعمليات شغب وسطو على سفن أوروبية، وقتل .

فقتلهم بيبرس ومثَّل بجثثهم ولكن قدرته ملم تكن متوفرة فكرر أوامره في مناسبات عدة  في الإسكندرية بمنع بيع الخمور وطرد (الخواطي) منها.

 

معركة عين جالوت

إنقلاب في الشام

كانت نتائج تلك المعركة أكبر بكثير مما كُتِب عنها. ونتائجها السياسية والعسكرية كانت مؤثرة للغاية في لعبة الأمم الدائرة في الشام .

في تلك المعركة قُتِل نائب هولاكوخان الذى غادر الشام فورا بعد أول هزيمة تلقاها في حياته.

ولم يعرف عنه أنه عاد الي الشام مرة أخري .. قبل تلك المعركة أرسل هولاكو رسائل إلي ملك دمشق الأيوبي وسلطان مصر الملوكي (قطز) مليئة بالتهديد والوعيد يهددهم بمصير مثل مصير بغداد. بلهجة كلها غرور واستعلاء.

وكأن الذي يتكلم هو رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وليس مجرد امبراطور تتري، يحسب ان ما فعله في بغداد يساوي شيئ مما فعله اليهود في غزة .

كانت المعركة كبيرة نسبيا وتمت علي مرحلتين. وبعدها مضي قطز حتي وصل إلي نهاية حدود بلاد الشام ثم عاد إلي دمشق فأثبت أن المنطقة فارغة من العوائق. وأن مشاكل الشام في الأساس هي مشاكل داخلية أيوبية.

قام بيبرس بحملات تفتيشية مع قوات أخرى وصل فيها إلي حلب وأراد أن يتولى حكمها فماطله قطز. فبدأت بذور شك وخلاف إنتهت بإغتيال قطز في صحراء الصالحة بمصر.

علي ضوء دروس معركة عين جالوت، و حملة صلاح الدين توصل بيبرس بعد تولية السلطة إلي اتخاذ سلسلة من أخطر القرارات العسكرية التي ادت في النهاية إلي طرد الصليبيين والأيوبيين معا من الشام .

واهم تلك القرارات هي تقوية الأسطول المصري بحيث صار قوة منافسه لأساطيل الفرنجة ودعمت الفتح المملوكي لثغور الشام .

كما دعم دفاعات الإسكندرية وطهر الثغر من الخواطي ( أي النفوذ الثقالي والترفيهي للغرب في مصر )

                              

دور الأسطول في الحروب الصليبية

إبتعاد جيوش الفرنجة عن خطوطهم الخلفية في أوروبا كانت نقطة ضعف ولكنهم حولوها إلي نقطة قوة عندما زادوا قوة الأسطول كما ونوعا. وابدعوا في استخدامه فزاد كثبرا من سرعة ومرونة تحركاتهم على مساحات واسعة وبشكل مفاجئ سواء في عمليات الأمداد، أو في عمليات الهجوم علي ثغور المسلمين علي شواطئ الشام واحتلال أهم الموانئ فيها .

واعطاهم الأسطول تفوقا استراتيجيا مكنهم من احتلال الشام حتى أوشكوا على أخذ مصر وبالتالي باقي بلاد العرب. وبشبه ذلك إلى حد ما ، تفوق إسرائيل الجوى على العرب بما مكنها من احتلال فلسطين ثم مصر عبر نظام السيسي ثم باقي بلاد العرب بواسطة باقي الفريق من القادة.

ليس هذا فقط بل أنه أثناء حرب الألمان مع صلاح الدين استخدموا الأسطول بشكل بارع في عملية نقل ميدان المعركة من أقصى الشمال في تركيا إلي أقصي الجنوب في غزة بسرعة لا يمكن لصلاح الدين مجاراتها. كما أنه لم يترك خلفه في المناطق المحررة قوات كافية للدفاع وهدم كل الحصون التي تصلح للدفاع حتى لا يستخدمها الفرنجة. فأضره ذلك أكثر مما أضر أعدائه وفى النهاية خسر المسلمون كل أراضي “الفتح الصلاحي” بما فيها القدس.

بينما جيوش صلاح الدين وما رافقها من مواكب شعبية ضخمة من تجار الشام والسوقَة كانت مهيبة المنظر ومخيفة للصليبيين في البداية .

ولكن بعد ذلك أستغل الألمان تلك الميزة لصالحهم حين اعتمدوا علي أسلوب ينقل المعركة من مكان إلي آخر باستخدام السفن بينما يعتمد صلاح الدين علي الانتقال البري بتلك الجموع الهائلة وما يعنيه ذلك من ضياع الوقت والمال والمجهود. فَيَصِل إلي ميدان المعركة متأخرا عن الصليبيين الذين سبقوه إليها واحتلوا المواقع المناسبة لهم (كما حدث في معركة عكا الثانية ).

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )

www.mafa.world