ذات يوم (7).. الوطن قبل 70 عاماً .. وكما يموت الناس مات

0

ذات يوم (7)

الوطن قبل 70 عاماً

ــ (وكما يموت الناس مات) ــ 

 

كنت فى السابعة من العمر عندما خَرجْتُ فى أول مظاهرة وطنية .

جاء طلاب المدرسة الثانوية من الطرف الآخر من البلدة فى مظاهرة صاخبة . وقَفَوا أمام مدرستنا الإبتدائية، يهتفون بأصواتهم الخشنة : ( أين الطَلَبَة نريد الطَلَبَة ). .

كنا بصعوبة نحصل على الإعتراف بأننا مجرد تلاميذ، وفجأة أصبحنا “طَلَبَة” بإعتراف مظاهرة وطنية يقوم بها إخوتنا طلاب المدرسة الثانوية.

 وبعد عدة أحجار رشقوا بها الباب الخشبى للمدرسة، قرر حضرة الناظر الإفراج عنا لكي ننضم إلى المظاهرة، ونثرى العمل الوطني فى مصر.

مشينا عدة مئات من الأمتار نهتف مع الطلاب الكبار بشعارات ضد الإحتلال البريطانى. مطالبين بالسلاح “للجهاد” فى قناة السويس .

أكتشفنا أن المظاهرة ليس لها هدف سوى الهتاف فى شوارع البلدة، فتوجهنا نحو بيوتنا لإستكمال باقى اليوم فى لعب (الكرة الشراب) فى الحوارى والأزقة .

وصلنا إلى الشارع الرئيسى فى البلدة (بلبيس القديمة)، فرأينا حركة غير عادية للنساء والأطفال الذين حمل العديد منهم كميات كبيرة من البيض ومعلبات اللحم (البلوبيف). كانت الحركة نشطة جداً فى “الشارع الجديد” بإتجاه (طريق المعاهدة) الموازى للترعة الإسماعيلية. وصلتنا الأخبار أن رجال من البلدة يقودهم العَمْ (عبد المحسن الأجرب) تاجر الأقمشة والناشط الوفدي، يحملون بنادق، ويوقفون شاحنات الطعام المتوجهة إلى القاعدة العسكرية البريطانية فى مدينة الإسماعيلية.

قرر الحاج عبد المحسن ورجاله بيع المواد الغذائية للجمهور بأسعار رمزية ـ تراب الفلوس ـ

– فدخل البيض والأطعمة  المعلبة إلى بيوت كثيرة كانت تسمع عنها فقط . ورأيت الكثير من الفتيات البائسات يحملن فى أطراف ملابسهن البيض إلى بيوتهن، ويسابقن الريح حتى يَعُدْن الكَرَّة مرة أخرى. كانت البلدة فى حالة من الحماس والفرح والفخر. وأخذت نشوة النصر عدداً من تلاميذ مدرستنا، فقال الكبار من تلاميذ الصف الرابع بأن الإنجليز جبناء ويمكن لأهل بلبيس أن يهزموهم  لو أن المعركة كانت بالعصي الغليظة (الشوم)، وليس بالبنادق التى يحتمي بها الإنجليز الجبناء .

 

المناسبة الثانية التى لمع فيها نجم ( الحاج عبد المحسن الأجرب) كزعيم  ومجاهد ،كان فى ذلك اليوم الخريفي الذى غطى البلدة بغلالة رقيقة من الأتربة تحملها رياح منعشة.

كنت أتجول فى “الشارع الجديد” لشراء بعض الخضروات للمنزل. وكان هناك سُرادِق ضخم ومُكَبِّرات للصوت وزحام، حيث عُقِد إجتماع شعبى لتوديع أحد شهداء (المجاهدين) فى قناة السويس. وكان الخطيب الأول فى الحفل هو الحاج عبد المحسن. ومازلت أذكر صوته المجلجل فى فضاء البلدة ، والرعدة التى إنتابتنى وأنا أسمع عبارته التى مازلت أذكرها حتى الآن، وهو ينادى صديقه الشهيد قائلا:

{ أخي وزميلى فى الجهاد، عبد الله بيك المردانلى}.

وذلك إسم الشهيد الذى سقط فى هجوم على أحد معسكرات الإنجليز فى الجهاد الذى أشعل حماس المصريين، وشارك فيه الوفديون ، والإخوان المسلمون فى البلدة.

 

المناسبة الثالثة كانت بعد

 (حركة الجيش المباركة) التى أسموها فيما بعد “ثورة 23 يوليو”. والتى دشنت حكماً أبدياً للعسكر فوق قلب مصر ورقاب المصريين. .

حلَّ الجيش الأحزاب جميعها، وفى مقدمتها الوفد.. وحكمت الثورة البلاد حكماً عسكرياً بالتفاهم بين الجيش والإخوان المسلمين ، الذين بطش بهم الجيش فيما بعد بقسوة لم تعدها مصر إلا فى إنقلاب الجيش على حكومة الإخوان عام (2013) .

– القائد الوطنى والمجاهد ضد الإنجليز فى قناة السويس، الحاج عبد المحسن ، أعتقلتة الثورة المباركة وعذبته تعذيبا شديداً فى إطار إتهام شامل لقيادات حزب الوفد بالتآمر لإعادة الإحتلال الإنجليزى والأحزاب إلى حكم مصر.

– بعد عدةّ سنوات من الإعتقال خرج الحاج عبد المحسن وهو فى حالة صحية سيئة للغاية. ولكنه لم يستطع منع نفسه من الذهاب إلى القاهرة لحضور جنازة (زعيم الأمة مصطفى باشا النحاس) رئيس حزب الوفد وآخر رئيس وزراء منتخب لمصر قبل الثورة.

– حضر الحاج عبد المحسن الجنازة ومعه عدد قليل من كوادر حزب الوفد القدماء. وكانت الجنازة أمنيَّة بجدارة، بحيث شكَّل المخبرون معظم المشيعين. وحُظِرَ حضور الجمهور. بحيث لم يتمكن من تشييع(الزعيم) سوى عدد قليل جداً من أفراد (الأمة) التى هو زعيمها.

– رغم الإرهاب الأمنى الذى تَحَكَّم فى الجنازة، ورغم مرضه وكِبَرِ سنه، لم يستطع الحاج عبد المحسن قبول أن يتم تشيبع (الزعيم ) النحاس بهذا الشكل غير اللائق بعيداً عن (جماهير الأمة ) .

قفز الحاج عبد المحسن فوق أكتاف زملائه ، متذكراً أيام الشباب، وهتف بكامل قُوَّتِه: (لا زعيم الا أنت يا نحاس) .فكان آخر هتاف له فى الحياة.

فوراً  تلقفته أيدى المخبرين المتربصين، وأمسكوا بتلابيب أخوانه جميعا، وقاموا معهم بالواجب فى موقع الجريمة .

– عاد الحاج عبد المحسن إلى المعتقل مرة أخرى ، ليخرج منه بعد مدة بقايا إنسان.

– قذفه رجال الأمن إلى بيته فى بلبيس، ليموت بعد أيام أو ساعات.

 

المناسبة الرابعة  التى عاصرتها فى البلدة وكان بطلها الحاج المجاهد الوطنى(عبد المحسن الأجرب)، كانت أثناء حرب (1956)، فيما أشتُهِرَ ”بالعدوان الثلاثى على مصر”.

– قبل الفجر بقليل فى أحد أيام العدوان، أشيع أن قوات المظلات البريطانية قد هبطت فى مطار بلبيس، (كُلِيَّة الطيران ) .

وكان طيران العدوان الثلاثى قد بدأ ضربته الأولى على مصر بقصف المطارات كما جرت العادة فى الحروب التقليدية. وقامت طائرات العدو بإستعراض جوى لمهارات الطيارين قبل أن يقوموا بقصف المطار. ظن أهالى البلدة أن تلك الألعاب فى سماء مدينتهم يقوم بها الطيران المصرى. فوقفوا على جانبى “الشارع الجديد” يصفقون ويهللون فرحاً وفخراً. فتمادى طيران العدوان فى الإستعراض لإسعاد أهالي مدينتنا المتحمسون، ظناً منه ( حسب ما جاء فى الأذاعة البريطانية ليلاً)، أن أهالى بلبيس يؤيدون الجيوش الزاحفة على مصر). ثم بدأ الطيران فى قصف المطار. إكتشف الأهالى خطأهم وإختفوا فى لمح البصر داخل البيوت . كنت أتابع مشاهد الإحتفال الشعبى والقصف الذى تلاه، من فوق سطح بيت أحد أقاربنا. وبكل وضوح شاهدت خط طويل جداً من النيران والدخان الكثيف فوق المطارالذى لم أتصور أن مساحته كبيرة إلى هذا الحد .

– بَدَأتْ بعد ذلك عملية نهب لِمَا تبقى من المطار. قاد  السطو بعض جنود المطار وبعض الجسورين من فتيان البلدة الذين أتقنوا فن السطو على معسكرات الإنجليز فى مدن القناة .

– شهدت بلدتنا إحتفالا “بالغنائم” العسكرية . وكانت من الأقمشة العسكرية الفاخرة ، وأدوات مدنية ، وأجزاء من السيارات .

– كانت تلك هى موجة الغنائم الثانية التى أشهدها فى البلدة، ولكنها من الجيش المصرى وليس من الجيش الإنجليزى كما فعل الحاج عبد المحسن أيام الجهاد فى قناة السويس .

 

المناسبة الخامسة من بطولات الحاج عبد المحسن، والتى شَهِدَتْها بلبيس ، كان ميدانها الكلية الجوية (المطار) .

– كان المطار ميداناً لإظهار آخر بطولات الحاج عبد المحسن فى جهاده الطويل ضد الإنجليز، بل والعدوان الثلاثى كله. وكان عمله تاريخيا بكل المقاييس ، وبالذات مقاييس بلدتنا . فقد ظهر من تسلسل أحداث ذلك اليوم أنه أول من ذهب للتصدى  ــ منفردا ومسلحاً ــ لمواجهة المظليين الإنجليز، وقت الفجر الذى لم يشهد ــ لحسن الحظ ــ

 أى إنزال للقوات .

– بدأت أحداث ذلك اليوم التاريخى قبل صلاة الفجر بقليل. بسماع ضوضاء فى “الشارع الجديد” ، وصياح ينذر بإنزال مظلي فى المطار . وكانت أحدى النساء تستنهض همم الرجال وتدق على أبواب البيوت وتنادى بأسماء الرجال والشباب للتوجه إلى المطار لمقاومة عساكر الإنجليز .

لم يكن لدى الأهالي أى أسلحة. ولكن رجالاً من الصعيد يسكنون فى أحد بيوت حارتنا، حطموا “درابزين” السلم الخشبى، ووزعوا أخشابه على أنفسهم لإستخدامها فى قتال جنود المظلات الإنجليز . ثم ذهبوا إلى ميدان المعركة فوراً ، بينما صاحبة البيت (الخالة هدية) تصرخ وتولول ، وهى تسب وتلعن الحرب والصعايدة والإنجليز فى جملة واحدة ، حتى كادت أن تفقد عقلها.

أخى الأكبرـ رحمه الله ـ كان قائدا لشباب المقاومة الشعبية فى البلدة نظراً لأنه تلقى تدريباً عسكرياً فى معسكر الإخوان المسلمين الذى أقيم فى صحراء البلدة أثناء إحتدام معارك الفدائيين فى مدن القناة.

– حكومة الثورة أرسلت ضابط شاب لتنظيم وقيادة المقاومة الشعبية فى بلبيس. ولكنه بعد أيام من وصوله أصيب بجرح صغير أثناء التدريب على تفجير عبوة ناسفة. فأخذ يبكي ويصيح بجملة أصبحت “شعارا” لدى شباب المقاومة الشعبية. قال حضرة الضابط فى صياحه البطولى : (أعيدونى إلى ماما).

 وفعلاٍ عاد إلى ماما ، ولم يرجع إلى بلبيس مرة أخرى .

– أثناء غيابه حدثت أزمة الإنزال المظلى فى مطار بلبيس. وكان حضرة الضابط يضع بنادق أعضاء المقاومة فى أحد مخازن مركز شرطة بلبيس، وسَلَّم مفتاح المخزن إلى أحد المخبرين.

 وعندما ذهب أخى ومجموعة المقاومين إلى مركز الشرطة لم يجدوا المخبر ولا المفتاح ولا أى أذن بتحطيم القفل الذى هو عُهدَة لحكومة الثورة فى القاهرة.

– ذهب أخى وشباب المقاومة ، بلا سلاح، إلى المطار يمشون بحذر حتى بدأت الشمس ترتفع وتغمر الصحراء بضوء الشروق المائل إلى الحُمْرَة. وإذا بشبح بعيد لرجل ، أو لجندى/ قادم من جهة المطار، ويمشى منفرداً بخطوات هادئة، بما يوحي أنه ليس جندى مظلات يستطلع الطريق لفريقه. بعد قليل إتضحت الصورة ، أنه الحاج عبد المحسن، يمسك بيده مسدساً ، ويرتدى خوذة ومعطفاً عسكرياً وحذاءً عسكرياً، كل ذلك فوق جلباب بلدى تقليدى.

تعارف الرجل والشباب بالصياح فقال لهم مطمئناً: (خير يا أولاد .. مفيش حاجة .. ، أنا جاى من المطار ومفيش حد هناك ) .

– كان الحاج عبد المحسن هو الوحيد الذى ذهب بكامل الجاهزية، وبسلاحه، إلى المطار.

( ربما كان هو المسلح الوحيد فى بلدة هامة، ولكنها منزوعة السلاح وقت الحرب). ذهب فور سماع النفير قبل أذان الفجر، وقبل أن تفيق البلدة من دهشتها وصدمتها.

– عسكر  ثورة يوليو فيما بعد، إعتقلوا الحاج عبد المحسن وعذبوه حتى الموت بتهمة  {التآمر مع الإنجليز لإعادة الإحتلال وحكم الأحزاب إلى مصر} .

– تحت التعذيب، ومتهما بالخيانة العظمى ، مات المجاهد الوطنى الحاج عبد المحسن الأجرب .. وكما يموت الناس مات .

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )

www.mafa.world

 

ذات يوم ـــ (7)..الوطن قبل 70 عاماً.. (وكما يموت الناس مات)

 



ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا