الرأى الرسمى الدعائى .. و الرأى الحقيقى

الرأى الرسمى الدعائى .. والرأى الحقيقى.

 

الدول والأحزاب ـ وربما كل الكيانات النشطة فى المجتمع ـ تكون واقعة تحت ضغوط تجبرها على إظهار رأى رسمى تجاه المسائل الهامة، فى مقابل رأى حقيقى لا تفصح عنه إلا بشكل جزئى فى بعض الأحيان . والسبب هو أن الرأى الحقيقى قد يتسبب فى أضرار كبيرة يمكن تجنبها إذا إسْتُبدِل برأى آخر رسمى ، أقل ضرراً .

– والأمثلة على ذلك لا تكاد تحصى . وهى أوضح فى الكيانات الضعيفة التى تعمل وسط كيانات أقوى وأكبر ، لها مصالح مختلفة أو متعارضة مع الكيان الضعيف .

كأن تكون حركة معارضة تعيش فى المنفى فى دولة تتيح لها قدراً من الحرية وتفرض عليها كمية من الضغوط . قد تقبل بها حركة المعارضة ، إذا لم تمتلك بدائل أفضل ، أو كان التصدى العلنى لذلك التعارض فى المصالح سوف يكلف أنصارها أثماناً باهظة قد تصل الى تدمير حياتهم، خاصة إذا كانوا فى حالة هجرة واسعة.

وسائل  الإفصاح عن المواقف :

حركة المعارضة (أو الدولة) تعلن مواقفها الرسمية عبر وسائل الإعلام التابعة لها وبواسطة موظفيها الرسميين . وهى ترفض أن يحاسبها أحد على غير مواقفها الرسمية المعلنة ، وتعتبر أى رأى آخر مكذوب وغير معترف به .

أما الرأى الحقيقي لحركة المعارضة (أو الدولة ) فقليلا ما يتطابق مع رأيها الرسمى . ولكن التعبير عنه له مسارات أخرى مختلفة . أشهرها قنوات الإعلام الخارجي ـ أو الكُتَّاب الأجانب ـ أوعبر قنوات إعلامية لدولة صديقة .

وفى كل تلك الحالات تمتلك حركة المعارضة (أو الدولة)الحرية فى إنكار كل ما لا يناسبها نشره بين جمهورها، والقول بأنه خطأ فى الفهم ، أو غير صحيح أو مدسوس عليها ، أو حتى مؤامرة إعلامية . وتصر على أن الروايات الرسمية للأحداث هى الحقائق الوحيدة .

المصداقية شئ آخر :

يخوض المجاهدون دوما حربا غير متكافئة مع أعدائهم ، خاصة فى ميدان الإعلام الذى يمتلك العدو فيه تفوقا ماديا لا يمكن إدراكة . الوسيلة الوحيدة لمواجهته والتفوق عليه هى إلتزام الإعلام الجهادى بالمصداقية . وهى العنصر الذى يستحيل على العدو الحصول عليه، رغم أنه أحيانا قد يفرج عن بعض الحقائق . ولكن منهجه الإعلامى يعتمد تماما على الأكاذيب . لهذا يضع العدو إعلام  المعركة تحت سلطة الجيش، ويُخْضِع له جميع الإعلام الداخلى والخارجى . وفى حال تمتع الإعلام الجهادى بالمصداقية فإنه يكسب الرأى العام المحلى وثقة الإعلام الخارجى، حتى ولو لم ينشر رسائله. فإذا خسر الإعلام الجهادى مصداقيته فإن المجاهدين يخسرون جزءا هاما من معركتهم . من أسباب فقدان المصداقية ليس فقط ترديد الأكاذيب والمبالغات، بل أيضا الإفراط فى العواطف بدون تثقيف  وتوعية صحيحة للجمهور ومواجهته بالحقائق، وتوضيح التحديات والإشارة إلى سبل مواجهتها. أو المبالغة فى الصبغة الحزبية(عبادة الحزب)وعبادة الفرد(الزعيم)، وعدم القبول بالنقد أو الإعتراف بالخطأ ، أوالإستكبار عن ممارسة النقد الذاتى والإعلان عن تصحيح الممارسات الخاطئة أو المسارات التى ثبت فشلها.أو الدخول فى معارك سياسية أو عقائدية لا تفيد قضية الجهاد ، أو أنها مفروضة عليه بحكم التحالفات الخارجية ومتطلبات التمويل.

موقف الجمهور من الإعلام “الرسمى” الدعائى، والإعلام”الحقيقى” :

الجمهور الموالى لحركة المعارضة (أو للدولة) هو المستهدف الأساسى من الروايات الرسمية للمواقف والأحداث . بغرض الحفاظ على ولائه وإخلاصة ودعمه للحزب أو الجماعة المعارضة (أو للدولة صاحبة الشأن). كما أن الرأى الرسمى (الإعلام)، له أجهزته وموظفوه وهم درجات . درجة عليا تبتكر الأكاذيب وتوظفها فى حرب نفسية مؤذية للخصم. وجزء متدنى المستوى من الأجهزة والموظفين مهمتهم الترويج والترديد والدفاع بالباطل .

وحديثاً أطلقوا على هؤلاء لقب (الذباب) الألكترونى.أقلهم من الهواة وأكثرهم ذباب مأجور .

– قطاع قليل جدا من الناس يهتم بالمواقف (الحقيقية) رغم صعوبة الحصول عليها. ولكن بعد البحث والفحص يمكن العثورعلى مصادر تسريب حقائق التنظيم أو الدولة. (التسريب إما أن تقوم به الجهة صاحبة العلاقة ، أو تقوم به جهة أو جهات معادية لها بغرض التشهير والإحراج  لهذا يكون مخلوطاً بقدر لا بأس به من الأكاذيب والحقائق الناقصة بهدف الإساءة إلى الطرف الآخر والإضرار بمصالحة) لهذا فالعثور على الحقيقة الصافية هو أمر عسير للغاية وقد يكون خطيراً للغاية . وعلى عكس المتوقع فإن الباحث عن الحقيقة يكون هو المدان من الأغلبية الساذجة، ومن أصحاب النفوذ السياسي والمالي .

لماذا البحث عن الحقيقة ؟

البحث عن الحقيقة إما أن يكون مرض فى حد ذاته لدى أقلية من الناس .

ـ أو أنه أمر ضرورى من أجل إستكشاف الطريق الصحيح لمسيرة الحركة أو الحزب أو الجماعة (أو الدولة). فتلك كيانات تتعلق بها مصائر كبرى لشعوب ، ولا تقبل الإعتماد على الأكاذيب والمغالطات الفجة التى هى عماد الإعلام الرسمى.

التمييز بين الدعاية “الرسمية” وبين”الحقائق” :

من وسائل التمييز بين بروباجندا (الدعاية) الرسمية وبين الحقائق :

1 ـ مقارنة الأقوال الدعائية بالوقائع على الأرض . مع العلم أن الكيانات المذكورة قد تغطى أكاذيبها بشئ من الحقيقة للتضليل  كأن تعمل حكومة ما، على إقتلاع الإسلام من بلادها ، وفى نفس الوقت تقوم بإعمال تظهر وكأنها خدمة للدين ، حتى لا يتكتشف الجمهور الخديعة إلا بعد فوات الأوان. ولدينا الأمثلة الشهيرة من تركيا إلى مصر والسعودية وباكستان وغيرهم.

2ـ معرفة ثوابت العلاقات بين الدول فى الإقتصاد والسياسة والعمق التاريخى(الصحيح وليس المزور) . ومقارنة المواقف المعلنة بالحقائق الثابتة ، مع ترجيح الثوابت إلى أن يظهر العكس. لإحتمال تغيير المواقف مع تغير المصالح . فالسياسة تعترف بالمصالح أولا وقبل كل شئ. والمصالح تتغير وليست ثابتة .

3 ـ معرفة وجهة مصالح تلك الكيانات (أحزاب ـ جماعات ـ دول). وأى تصريحات تناقض تلك المصالح الواضحة ، يمكن إعتبارها من الدعايات “الرسمية” وليست من الحقائق .

4 ـ معرفة مقدار التأثير الخارجى على السياسة الداخلية أو المحلية . ولمَنْ هذا التأثير الخارجى ومداه ، ومصدره إن كان إقليميا أو دولياً. فليس هناك كيان فى العالم قادر على فعل كل ما يريد، أوتحقيق كل برامجه فى مدى زمنى يناسبه هو فقط . فكل كيان له قدر من المحدودية ، ومقدار من الحرية يعتمد أساساً على قواه الذاتية ، ويعتمد ثانيا على قوة تحالفاته فى الداخل وفى الدوائر المحيطة به .

فمن أجل الحصول على القوة فى إتخاذ القرار المستقل ، لابد من تجميع قوى كافية فى مجالات عديدة . فالمسألة أكبر من مجرد قرار شخصى أو داخل المجموعة صاحبة القرار . رغم أن القرار الشجاع المتبصر له دور كبير فى تغيير التاريخ .

إنهم يحبون طالبان .. وهذا هو الدليل :

حاولت تطبيق تلك القواعد عند الحديث عن موقف جماعة عربية جهادية من الإنسحاب الأمريكى من أفغانستان .

ــ فقلت أن الجماعة ليست مُرَحِّبَة ولا سعيدة بالإنسحاب . وذلك بناءً على ما فهمته من كتابة مصدر مقرب من الجماعة، ولكنه لا يعبر عنها رسميا . واعتبرت ذلك المصدر أحد منافذ تسريب شئ من الحقيقة من بين ركام “البروباجندا” الحزبية، التى تناقض ثوابت لا يمكن تجاهلها، ومن تلك الثوابت:

ــ أن جبهة حلفاء التنظيم المذكور ومؤسسيه هم ـ بالإعترافات المعلنة : الولايات المتحدة ـ تركياـ مشيخات النفط خاصة قطر والإمارات ، ثم إسرائيل مهندس اللعبة قبل أن تبدأ مع الربيع العربى. ومن تلك الجبهة يستمد التنظيم كل شئ (من الإبرة إلى الصاروخ). نفس تلك الجبهة بأكملها تقاتل ضد حركة طالبان وشعب أفغانستان منذ 20عاما (18عاما فقط بالنسبة لتركيا) .

ورغم إنسحاب أمريكا الشكلى فتلك الجبهة نفسها ترتب صفوفها لإعادة الكّرَّة فى جولة حرب جديدة مع نشاط عسكرى أكبر لباكستان وتركيا . وتسعى أمريكا إلى تحريك دول من آسيا الوسطى ، وجذب روسيا من جديد إلى المحرقة الأفغانية .

فكيف يمكن أن نتصور أن موقف تلك الجماعة / من المحبة والصداقة لحركة طالبان /هو موقف حقيقى؟. ولكن ما سبب إتخاذهم لهذا الموقف المزدوج؟. يمكن القول أنها الرغبة فى الإستفادة من السمعة الطيبة لحركة طالبان، للتغطية على أخطاء وجرائم كثيرة إرتكبها التنظيم المذكور. وأنها أيضا مراعاة للجمهور الكبير المحب للأفغان والسعيد بإنتصاراتهم.

مرة أخرى أقول : الصياح المرتفع بلا حدود .. وإطلاق الأكاذيب بلا رادع ، وتكرارها بلا كلل أوملل.. وإنكار الحقائق الثابتة بلا حياء أو خجل ، كل ذلك لا يمكن أن يُحَوِّل الأكاذيب إلى حقائق. وسوف تفشل كما فشلت قديما أساليب السحرة فى تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب .

(أما الزَبَدُ فيذهب جُفاءً) .

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري  
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )

www.mafa.world