الجيوش و الحروب الحديثة

الجيوش و الحروب الحديثة

تزداد مشكلة الحروب في العالم تعقيداً نتيجة لتعقد الحياة الإنسانية وتطور العلم والتكنولوجيا الهائل في تصنيع السلاح وبالتالي أصبحت الحرب عملا علمياً وتقنياً غاية في التعقيد ويستلزم استثمارات ضخمة تستقطع من احتياجات الناس الذين يتزايد عددهم ومطالبهم .

هذا مع تناقص الموارد المتاحة في العالم مع التغير المناخي الذي أضر بالنظام البيئي كله فتعرضت مساحات كبيرة من الأرض إلى التصحر والكثير من المدن الساحلية في العالم مهددة بالاختفاء تحت مياه المحيطات .

تلك رؤية العالم المتطور لمشكلة الحرب في الوقت الذي تغيرت فيه فلسفة الإنسان تجاه الخالق وإعلان العصيان على الأديان.

– والأدهى هو النظام الاقتصادي العالمي الذى سيطر به الطغاة المستعمرون على ثروات الشعوب طبقا لنظام مالى وتجاري صارم يزيد الفقراء فقرا والأغنياء غنى، نظام دولي تحرسه جيوش عظمى و أحلاف عابرة القارات.

كل العلاقات أخذت طابع الحرب فالإنسان يحارب الإنسان ويحارب الله وهو في نفس الوقت يكره الموت ويتشبث بالحياه وتلك رؤية يهودية.

والنتيجة لها انعكاس كبير علي طريقة الحروب وأدواتها و إستراتيجيتها  أهم المطالب من الحرب الآن هي الاستيلاء علي الموارد الطبيعية وتسخير الإنسان لخدمة الصفوة اليهودية التي تتحكم في العالم وتري في باقي البشر مجرد حمير خلقها الله لخدمتهم .

 

ونتج عن ذلك تطورات :

الأول هو: الإعتماد الكامل علي التكنولوجيا لأن الصفوة الحاكمة والمسيطرة على  إنتاج وتطوير التكنولوجيا وتتحمل فى ذلك نفقات خيالية. ترى في التكنولوجيا وسيلة للتفوق والسيطرة على البشرية وإبادة من تشاء ويمكنها خوض الحروب وقد تحررت من خشية الموت. لذا تعتمد على التكنولوجيا لأداء المهام في الحرب دون أن يتعرض الإنسان المتنعم للمخاطر ويتمكن من العيش لأطول فترة ممكنة وبأعلي مستوى من الرفاهية. والإتجاه الآن أن تكون الأسلحة خالية من البشر تتحكم فيها عن بعد كبير ومسافات أكثر من آمنة. قلة من الأذكياء ذوي التعليم العالي والتأهيل العلمي المتقدم يتولون تشغيل تلك التكنولوجية المعقدة، وآخرون منهم يتولون التخطيط للحرب وإدارتها، وآخرن يواصلون تطوير أفكار وأدوات الدمار سيرا خلف  أكثر الأفكار الشيطانية جنونا وخروجا على طبيعة ما جاءت به الشرائع السماوية،  وحتى التي اخترعها الإنسان. وإذا فازوا في الحرب هنأوا أنفسهم بالنصر العظيم عل الفقراء الضعفاء الجهلاء الذين تجاوزوا الحدود بالعدوان على العالم المتحضر حين طالبوه بالعدالة والمساواة وحقهم أن يكونوا بشرا طبقا لمعاييرالخالق وليس مشيئة المستكبرين.

هؤلاء الأذكياء الأغنياء يقودون المعارك علي بعد آلاف الكيلومترات بمساعدة الأقمار الصناعية ، أي أهم منجزات العلم والتكنولوجيا الحديثة وحتي تقوم التكنولوجيا بكل العمل فلابد أن تنتصر علي الخصم ولا تبقي له أي قدرة علي المقاومة بعد انتهاء الحرب وهزيمته. كما كان يحدث قديما بعد هزائم الدول العريقة فكانت تستخدم الزمن في استعادة بناء قوتها مرة أخري ومحاربة الذين انتصروا عليها وغالبا ما تنجح في هزيمتهم.

حدث ذلك في مصر عدة مرات أيام الفراعنة كما حدث للفرس في أيام إمبراطوريتهم وحدث في الصين و روسيا ودول اسيوية كثيرة وللكثير من الدول الأوروبية في العصور القديمة والحديثة .

أن أسلحة الدمار الشامل أضحت ضرورية وممكنة بفضل التطور العلوم والقدرة الاقتصادية التي تراكمت علي مدى قرون من النهب الاستعماري. فظهرت القنابل النووية والهيدروجينيه فلم تعد مسألة هزيمة العدو بل إبادته.

كما حدث في اليابان في الحرب العالمية الثانية عندما ضربوها مرتين في هيروشيما وناجازاكي علي سبيل التجربة العملية لأول مرة في ميدان الحرب.

كما استخدموا الطائرات كوسيلة للإبادة الشاملة في ألمانيا وقصفوها قصفاً مساحيا لمدة شهر. فتولي الأمريكان القصف نهارا و البريطانيون القصف ليلا حتى حطموا القاعدة الصناعية وقتلوا أعدادا من الناس تعادل من قتلوا في اليابان بالسلاح النووي فى المشهد الأخير من الحرب وعلى سبيل الإحتياط .

فبعد تجارب الأمريكان بعد الحرب العالمية الثانية خاصة في فيتنام التي استخدموا فيها الأسلحة الكيماوية والقصف الجوي المساحي كوسيلة لإبادة الخصم ووسعوا نطاق الحرب حتي شملت الدول المجاورة لفيتنام لقطع الإمداد عن الثوار.

فطال القصف فيتنام الشمالية والصين، إضافة إلي لاوس وكمبوديا. ومع ذلك وجدوا أنه لا مناص من استخدام جندي المشاة التقليدي في مراحل ما بعد نهاية الحرب بهدف تطهير الأرض من أفراد العدو و القضاء التام علي من تبقي منهم.

فتأكدت النتيجة التي حاولوا الهروب منها طويلا، وهي أن الإنسان هو سيد الحروب وليس السلاح. فالإنسان المقاتل تتوقف عليه نتيجة المعركة خاصة علي خصائصه النفسية وقوته الإيمانية، مع تفاصيل صغيرة حول الإلمام بالسلاح وتقنيات استخدامه .

فالسلاح ليس إلا وسيلة مساعدة للإنسان لأداء مهامه في الحرب .

فوجدت الصفوة المتحكمة في العالم والتي حاولت الهروب من ميدان المعركة أن التكنولوجيا وأسلحة الدمار الشامل لا تكفي وحدها لإنهاء الحرب تماما بمعنى إبادة العدو من الوجود كما يرغب هؤلاء الطغاة.

إذ لا بد من وجود عنصر بشري للمتابعة وللإجهاز علي العدو تماما بحيث يكون الإفناء شاملا بالفعل.

كما ظهر في فيتنام، فمن أجل تطهير الأنفاق التي استخدمها ثوار الفيتكونج في الهجوم علي القواعد الأمريكية المنيعة.

فأضطر الأمريكان للإستعانة بالمرتزقة و الجنود النظاميين من الجيش الحكومي لفيتنام الجنوبية في دخول الخنادق لمطاردة الثوار فيها .

واسموا تلك المجموعات فئران الأنفاق وقال الأمريكيون أنهم اضطروا إلى استخدام الفيتناميين لأن حجمهم صغير ويستطيعون المرور في الأنفاق التي صنعها الثوار وتناسب الأحجام الصغيرة للفيتناميين ولا تناسب الأحجام الكبيرة للجنود الأمريكان .

المعركة الدائرة الآن في غزة تثبت بعض النقاط التي نتكلم عنها الآن و التي ذكرناها سابقا حول سمات الحروب الحديثة:

1ـ الاعتماد على التكنولوجيا في تحقيق كامل أهداف الحرب.

2ـ أن هدف الحرب هو إبادة الخصم وليس هزيمته عسكريا فقط .

3ـ الجندي المرفَّه من أبناء الحضارة الحديثة لا يريد أن يتعرض للموت أساسا، خاصة في المراحل الأخيرة من الحرب أثناء تطهير المواقع ومطاردة العدو.

لأجل هذا استخدم اليهود أعدادا هائلة من المرتزقة ، ويحاولون توريط حلفائهم بشتي الطرق من أجل استخدام قواتهم العسكرية في المعارك الأرضية نيابة عن الجندي اليهودي. وكلما كانت الدولة فقيرة وشعبها مقهور كلما كانت استجابتها لخدمة اليهود أسرع .

فقد استخدموا الجيش المصري منذ سنوات طويلة لحصار غزة ومنع الإمدادات عنها عن طريق البر والبحر. وهم يخططون لاستخدامه حتي داخل غزة إذا أمكن. أو لمواجهة المهاجرين الفلسطينيين في سيناء. وإجبارهم علي الحياة داخل معسكرات مغلقة أشبه بالسجون الجماعية .

الذي يدور في حرب غزة الآن هو إيجاز بليغ لمفاهيم الحرب الحديثة وقد هدد اليهود بضربها بالسلاح النووي كما حدث لليابان .

فضربوها ضربا جويا مساحياً ليلاً ونهاراً كما حدث في المانيا وقاوموا الأنفاق التي صنعها مجاهدو غزة بأساليب أتبعها الأمريكيون في فيتنام ، مثل الإغراق بالمياه .

تجد جيوش العالم الثالث نفسها ضائعة لعجزها عن مجاراة جيوش الدول المتقدمة والغنية لإفتقارها إلي القدرات المالية الهائلة والتقدم التكنولوجي .

كذلك أختلاف الثقافات الكبير بين الشعوب المتخلفة في العالمين العربي والإسلامي وبين الدول الأوروبية بقيادة إسرائيل والحركة اليهودية العالمية

 

 جيوش المستضعفين

في الحقيقة لا يمكن لدولنا المتخلفة أن تصنع لنفسها جيوشا وتخوض حروبا بنفس الطريقة التي تتبعها جيوش إسرائيل و أمريكا وحلف الناتو في حروبهم المتواصلة والمتنقلة التي بدأت في أفغانستان في 2001  وصولا إلي حرب غزة في عام 2023 ومرورا بحرب أوكرانيا عام 2022 فقد تجلت الكثير من نقاط الضعف لدي محور الحرب الحديثة في المجالات النفسية والاقتصادية وحتي في إستراتيجية وتكتيكات الحرب .

وتمكن المقاتلون بالقدرة المعنوية والإيمانية العالية، مع حد أدنى من التعاون المشترك،  من التغلب علي معظم نواحي التفوق المادي في الحرب مثل تطور الأسلحة وتعدد مستويات الحرب، وكثرة الجهات المتحالفة فيها ضد الضعفاء .

فأمريكا مثلا دخلت الحرب ضد أفغانستان ومعها 48 دولة حليفة. وتمكنت من تجنيد حوالي 33 دولة معها حين حاربت العراق وسوريا. وحاربت روسيا في أوكرانيا وكان معها حلف الناتو بأجمعه وتأييد سياسي عالمي كامل تحصل عليه بشكل مضمون في جميع حروبها .

لا يمكن بناء جيش فعال وناجح للدول المستضعفة، إلا بعد أن تفهم جيدا الحروب الحديثة بداية من فلسفتها إلي تكنولوجياتها .إلي ملابستها الاستراتيجية والسياسية والدولية. فمنذ حرب أفغانستان وحتي حرب غزة حصل المسلمون علي كنوز لا تقدر بثمن من المعارف والمعلومات والإدراك لحقائق الأمور في الاقتصاد والحرب والسياسة في عالمنا المعاصر .

وأصبحوا يمتلكون أساليب ناجحة لمواجهة الحرب الحديثة . فمن كان يتصور أن الشعب الأفغاني الفقير المتخلف مادياً ولكنه عظيم الإيمان بالله وبنفسه وبقدراته استطاع أن يهزم أمريكا ومعها 48 دولة في حرب استمرت 20عاما وهو في عزلة وحصار دولي وإقليمي. في حرب كلفت الولايات المتحدة حوالي 2 تريليون دولار وهو يعادل القيمة السوقية لجميع الخامات المختزنة في أفغانستان.

فما الفائدة التي تعود علي أمريكا من الحرب إذن ؟ وعندما وصلوا إلي تلك النتيجة سحبوا قواتهم. ولو تمهل الأفغان قليلا في التفاوض أو حتي أمتنعوا عنه تماما، وقللت قطر من مؤامرتها عليهم لحصل الأفغان علي نتائج أفضل من تلك الحرب .

 

حرب غزة  

فمن كان يتصور أن المجاهدين في غزة يستطيعون الصمود أمام الجيش الإسرائيلي في حرب استمرت حتي الآن أكثر من مائة يوم راح ضحيتها أكثر من مائة ألف إنسان علي الأقل. ودمار شبه كامل لقطاع غزة وظروف معيشية لم يحيها بشر من قبل في ظل قصف دائم من الجو والبر والبحر. ومجاعة وأمراض ونقص في المياه و حرب بيولوجية غير معلنة ومع ذلك مازال الشعب في غزة صامدا والمجاهدون يحققون الانتصارات المبهرة في شوارع القطاع وبيوته المهدمة. ولو أنهم كانوا يمتلكون قيادة سياسية مناسبة لتغير وجه العالم كله .

والفارق بين الحالتين الجهاد في غزة والجهاد في أفغانستان هو عنصر القيادة حيث يتساوى الطرفان تقريبا في الشجاعة والصمود ، ولكن لا توجد إمكانية للمقارنة بين القيادة علي الجانبين .

– الدول وحركات المقاومة المسلحة التي وقفت إلي جانب الحرب في غزة .

لا شك أنهم جميعا استفادوا من دروس الحرب ، وفهموا الكثير عن الحروب الحديثة علي قدر عمق مشاركتهم في تلك الحرب .

أما الدول والجماعات التي لم تشارك في تلك الحرب فقد كرست لنفسها وضعا يخدم الأعداء تماما . فالعديد من الجيوش كرست وضعها كقوات احتياط لخدمة الحروب الأمريكية والإسرائيلية حول العالم وتقديم الدم المجاني لجنودها في مقابل رشاوي مالية وسياسية.

وبعض الجماعات الإسلامية اقتصرت علي دور المعاون الإعلامي وصدى الصوت للحرب النفسية والإعلامية التي تشنها أجهزة الإعلام الصهيونية ضد الشعوب التي وقعت ضحية لتلك الحروب خاصة الشعب الفلسطيني في غزة ومن يساندونه بالسلاح والدعم .

 

قصة الجيش المصري مع الحروب الحديثة

لا شك أن الجيش المصري حاليا هو أسوأ مثال على تبعية دول العالم الثالث، خاصة الدول العربية في خدمة إسرائيل والولايات المتحدة وحلف الناتو، وذلك منذ أن وقع السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979. وتحول الجيش المصري بالكامل لخدمة أهداف إسرائيل خاصة في سيناء .

فاستدعته إسرائيل خلافا لاتفاقية السلام من أجل تفريغ سيناء من السكان حتي لا يساندون غزة في وقت الحرب وأيضا لإغلاق جميع المنافذ الشرعية وغير الشرعية التي تربط شبه جزيرة سيناء مع قطاع غزة. وشارك جزئيا في الحرب ضد اليمن في البحر، وأحيانا بوحدات من المرتزقة في البر.

وعرض السيسي مساعدته علي دول الخليج في حال حربهم ضد ايران أو اليمن وقال تعبيره الشهير(مسافة السِكَّة) أي يلزمه فقط الوقت الضروري لنقل القوات إلي هناك. وأظهرت الأحداث أن الجيش المصري غير جاهز لأي حرب من أي نوع، فلا معنويات ولا تدريب ولا قيادة ولا أنضباط ولا إرادة قتال ـ اختصارا : “لا جيش“.

ذلك هي الحال الذي إنتهي إليه الجيش المصري . وهو في إنتظار مهمة جديدة ربما يكون بعضها في غزة ولكن أساس وظيفته ستكون في سيناء لحراسة الفلسطينيين في معتقلات كبيرة تحتجزهم كوطن بديل عن غزة .

تلك الحالة التي وصل إليها الجيش المصري بعد رحلة طويلة بدأت منذ الحملة الفرنسية علي مصر عام1898 م. إلى أن وصل إلي ذروة القوة التي تجلت في الأيام الثمانية الأولي من حرب 1973 وعبور قناة السويس والسيطرة علي خط بارليف الدفاعي .

وأعقب ذلك عشرة أيام من الخيانة رتبها السادات مع هنري كسنجر كي تنتهي الحرب إلي ما انتهت إليه من هزيمة الجيش المصري في آخر الحرب تعادل الهزيمة التي تلقاها الإسرائيليون في بدايتها. وإنتصار إسرائيلي في نهاية الحرب في مقابل الانتصار الذي حققه المصريون في بدايتها. وهكذا تكون نتيجة الحرب متعادلة ويبدأ السلام بين البلدين كما هندس ذلك هنري كيسنجر الصهيوني العتيد. ومنذ تلك اللحظة التي بدأت فيها المفاوضات بين مصر وإسرائيل عند الكيلو 101 علي طريق القاهرة السويس بدأت رحلة مصر شعبا وجيشا ودولة في السقوط السريع والتدهور الذي ليس له نهاية .

بينما بدأت إسرائيل رحلة في الاتجاه المعاكس بالسيطرة علي مصر من جيش ومخابرات والسيطرة علي الاقتصاد وتدميره والزراعة وتخريبها. أي تحويل مصر من شبه دولة إلي لا دولة، يقودها رئيس يهودي، هو أكثر صهيونية من يهود إسرائيل حسب شهادة مسئول إسرائيلي كبير .

وطبيعي أن يتحول الجيش المصري من جيش حقيقي خاض حرب 1973 إلي لا جيش يخدم إسرائيل. منهيا رحلة طويلة، بدأت مع الحملة الفرنسية علي مصر ومرت بمحطات متعددة كلفت الشعب المصري الكثير من الأموال والدماء والمعاناة .

 

نابليون ينتقم من جيش مصر

خرج الجيش المملوكي من القاهرة لصد الزحف الفرنسي وتقابل الطرفان في موقعة امبابة غرب النيل بالقرب من الجيزة وكانت في الحقيقة معركة بين حضارتين .

حضارة مصرية / إسلامية في طور الأفول، وحضارة فرنسية /صليبية صاعدة بقوة وتمتلك أقوي جيش في العالم في وقتها بقيادة أقوي قائد عسكري في أوروبا وهو (نابليون بونابرت) .

وفارق التسليح كان كبيرا وطريقة الحرب متفاوتة تفصلهما عدة قرون من الزمن يتقدمها الفرنسيون علي المصريون .

كان نابليون يشاهد المماليك في تلك المعركة وكأنه يشاهد قصة خيالية أو عرضا مسرحيا في باريس .

فالمماليك بالملابس والأسلحة وطريقة الحرب مازالت علي نفس الحال التي كانت عليها منذ قرون عديدة والمقاتل الذي يلبس حللا مزركشة وفرسا مزيناً. ويعتمد علي نفس الأسلوب القتالي القديم من الشجاعة الفائقة والمواجهة بالسيف التي تعتمد علي قوة الساعد وقوة القلب. بينما الجندي الفرنسي يحمل بندقية حديثة ذات حربة ويمكنه قتل خصمه من علي بعد عشرات الأمتار وتسانده مدفعية تقتل الخصم علي مسافة مئات الأمتار وتدمره وتدمر معداته وخيولة وتمزق صفوفه. (كان المماليك مازالوا يقاتلون بنفس الأسلوب الذى قاتلوا به ضد الحملة الفرنسية على دمياط وهزموا الفرنسيين وأسروا ملكهم لويس التاسع. والآن جاء نابليون نيابة عن الحضارة الأوروبية كي ينتقم من مماليك مصر).

كان نابليون هو أستاذ العالم في استخدام المدافع في الحروب الحديثة واستطاع أن يمزق أفضل جيوش أوروبا ويجتاح دولها بسهولة حتي صار هو الرجل الأقوى في كل أوروبا ونصَّب نفسه إمبراطوراً علي فرنسا. و كان يأمل في الاستيلاء على مصر في خطوة نحو الوصول إلى الهند وطرد بريطانيا منها  ليصبح عمليا أقوى جنرال/ امبراطور في العالم.

 وقد أعجب كثيراً بشجاعة المماليك وتمني أن يمتلك جيشا من هؤلاء الجنود الشجعان. وبالفعل أصطحب الفرنسيون معهم عددا كبيراً من جنود المماليك و قاتلوا إلي جانبهم في حروب أوروبا. وكانت مصر وقتها تابعة للإمبراطورية العثمانية ويحكمها والي يعينه السلطان التركي .

كانت من نتيجة تلك الحملة أن أكتشف المصريون حقيقة تخلفهم وخطورته علي أمنهم ومستقبل بلادهم. وان الدول الأوروبية قد تحتل مصر وأن النظام المملوكي التركي غير قادر على الدفاع عن مصر في مواجهة أوروبا الصناعية الحديثة.

وكان افضل من فهم تلك الحقيقة واستوعبها هو محمد علي ذلك الضابط الألباني الذي كان يعمل ضمن القوة التركية في مصر. وقد تمكن من الوصول إلي حكم مصر بعد أن ثار الشعب علي الحكم التركي وقرروا طرد الوالي التركي (خورشيد باشا) من مصر .

كان “محمد علي” حاد الذكاء وفهم قيمة مصر الاقتصادية والعسكرية والبشرية وأنها تمتلك من المؤهلات ما يمكنّها أن تكون مركزا لإمبراطورية قوية في المنطقة وبالتالي تصبح قوة عالمية .

ذهب تفكير “محمد علي” مباشرة إلي الإمبراطورية العثمانية (رجل أوروبا المريض) الذي يعاني من سكرات الموت.

وأول ما خطر في ذهنة وحاول تنفيذه هو أن يستولي على تلك الإمبراطورية ويجعل مركزها مصر، ويكون هو خليفة المسلمين. وعلم بذكائه الفائق أن ذلك يلزمه نظام تعليمي حديث وإقتصاد قائم علي زراعة قوية، وصناعات حديثة تخدم الجيش. ونظام تجنيد لتكوين جيش محترف وتدريب ضباط علي القتال علي النمط الأوروبي بالأسلحة الأوروبية الحديثة .

ونتيجة للصراعات الأوروبية والتنافس الحاد بين بريطانيا وفرنسا كامبراطوريتين هما الأكبر في العالم ومسيطرتان عليه. توجهت بريطانيا إلي دعم السلطان التركي حتي ترتب هي أمر أزاحته ووراثة الأمبراطورية العثمانية .

أما فرنسا فقد راهنت علي محمد علي باشا حاكم مصر الذكي والطموح و راهنت علي مشروعه لوراثة الإمبراطورية العثمانية فساعدته في بناء جيش حديث، مع  التصنيع والتسليح والتدريب والخبرات .

وكان من أهم من أرسلوه في تلك المهمة هو جنرال فرنسي أعلن إسلامه وتسمي باسم سليمان وأسماه المصريون سليمان باشا الفرنساوي .

وكان مستشاراً عسكرياً لدي إبراهيم باشا ابن محمد علي قائد الحملات المصرية ضد الجيش التركي في الشام. وساعده في تحقيق أنتصارات كاسحة ضد الأتراك حتي أوشك علي دخول اسطنبول لولا أن أباه محمد علي أوقفه بضغوط كبيرة من الدول الأوروبية التي هددته بشن حرب جماعية ضده إن حاول الاستيلاء علي العاصمة التركية، فأمر ابنه بالعودة إلي القاهرة.

و قام الأوروبيون بالفعل بتحطم الأسطول المصري في البحر الأبيض فى موقعة نافارين. وتأكد محمد علي من جدية التهديدات وأنه غير قادر علي مواجه أوروبا حتي مع دعم فرنسا له .

وفرضت دول أوروبا علي محمد علي شروطاً قاسية لمنعه من التوسع وإنشاء كيان سياسي كبير أو ما يشبه إمبراطورية في المنطقة .

فسمحوا له بإقامة دولة  تشمل مصر والسودان وتكون وراثية في أبنائه وأن يحد من قدرات الجيش المصري من حيث العدد والتسليح والتصنيع. وتبخرت أحلام محمد علي ومات كمداً وهو شبه مجنون بعد عدة سنوات.

ومن وقتها بدأ الجيش المصري بالانحدار والضعف تنفيذا لإتفاقية فرضتها دول اوروبا على مصر وأبناء محمد علي ،الذين تولوا الحكم من بعده لم يكونوا يثقون بالمصريين ولا يسمحون بترقيتهم إلي رتب عسكرية عالية.

فكانوا يفضلون الأتراك والشركس ، لتولي القيادة في الجيش إلي أن جاء حكم سعيد باشا وكانت مدة حكمه قصيرة. ولكنه سمح بترقية الضباط المصريين (الفلاحين كما يطلق عليهم الأتراك وكان أحمد عرابى من ضمن الفلاحين الذي تدرج في الرتب العسكرية حتي وصل إلي أعلاها وكان على صلة طيبة مع سعيد باشا).

وخلال النضال الوطني ضد الأسرة الحاكمة تمكن عرابى من للوصول إلي منصب وزير الدفاع .

ثم قاد ثورة ضد الخدوي توفيق مطالباً بفتح باب الترقيات أمام الضاط المصريين وزيادة عدد الجيش، والحد من تدخل قناصل الدول الأجنبية في شؤون الحكم وإنهاء عمل المحاكم الأجنبية .

ونشبت ثورة أحمد عرابي سنة 1882 فحاول البريطانيون احتلال مصرعن طريق الإسكندرية، فتصدي لهم عرابي بالجيش والشعب وهزمهم عند مدينة كفر الدوار. فحاولوا الهجوم من طرف قناة السويس علي القاهرة وهزموا جيش عرابي في معركة التل الكبير. وبدأ الاحتلال البريطاني لمصر الذي إستمر 73سنة حتي وقع إنقلاب “الضباط الأحرار” ضد الملك فاروق عام 1952 .

 

بريطانيا وجيش مصر

كان الاحتلال البريطاني له رؤية خاصة بالنسبة لمصر و وضعها داخل الإمبراطورية البريطانية .

أولا: أن أهم شيء في مصر هو قناة السويس التي هي الممر الأقصر بين بريطانيا والهند التي هي أكبر وأهم مستعمرات بريطانيا في العالم ( درة التاج البريطاني).

ثانيا: موقع مصر الإستراتيجي بين ثلاث قارات بما يخدم تحرك الإمبراطور البريطاني .

ثالثا: القوة البشرية لمصر (8 مليون في ذلك الوقت ) وإمكانية تكوين جيش يساعدها في السيطرة علي مصر وحماية قناة السويس والدفاع عن مصر وحتي للمشاركة في حروب بريطانيا في الخارج .

رابعاً: قيمة مصر الثقافيه والمعنوية وقدرتها الكبيرة علي التأثير في العرب والمسلمين. حيث أن إمكانية التأثير الثقافي لبريطانيا في المصريين سوف يؤثر علي باقي الشعوب العربية وهذا ما حدث بالفعل حين تحولت الثقافة المصرية إلي ثقافة أوروبية هجين تتبع جميع الشكليات في حضارة أوروبا حتي المخالف منها للدين والتقاليد المتوارثة في مصر .

خامسا: كانت بريطانيا تريد في مصر إقتصادا مكملا للإقتصاد البريطاني بإن تكون مصر دولة زراعية متخصصة في زراعة القطن المصري الشهير بجودته لصالح مصانع النسيج في بريطانيا.

أي أن مصر تزرع وبريطانيا تصنع وزيادة في الأحتياط وكما جرت العادة الاستعمارية قررت بريطانيا أن تكون مصر دولة يحكمها الإقطاعيون الكبار من أصحاب الأراضي الواسعة. أصحاب المصلحة الإقتصادية المباشرة مع بريطانيا.

بمتابعة المستشرقين أدركت بريطانيا أهمية دور الجيش في الحضارة المصرية وقدرته علي السيطرة علي الشعب وضبط الإدارة المدنية في البلاد وحفظ الأمن الداخلي فيها ، كل تلك الخدمات كانت بريطانيا في أشد الحاجة إليها في مصر .

فعملت علي تكوين جيش مصري جديد يخدم الإمبراطورية البريطانية في مصر والسودان اللتان كانتا دولة واحدة آنذاك.

وأن يكون الجيش المصري تحت قيادة أبناء الإقطاعيين. لأن مصالحهم الاقتصادية مرتبطة بمصالح بريطانيا فهم يزرعون أراضيهم بالقطن لمصانع النسيج في إنجلترا .

وصار لمصر جيش إقطاعي بهذا المفهوم. وثقافته أوروبية بحكم تعليمة الحديث وإرتباطه بالجاليات البريطانية والأوروبية في مصر. فصار الجيش أيضا بهذا الشكل بريطاني الثقافة والهوي.

لم يشارك الجيش المصري في مغامرات بريطانيا العسكرية واكتفوا بتخصيصة لحماية قناة السويس. وفي الحرب العالمية الأولي شارك الجيش المصري في فلسطين إلي جانب الجيش البريطاني في أعمال الإنشاءات وتمديد الطرق والحفر وبعض الحراسات.

نتيجة الحرب العالمية الأولي ضعفت بريطانيا كثيرا لحساب القوة الأمريكية، التي كان لها رأي آخر بالنسبة لمصر . بأن تتحول إلى دولة شبه صناعية.

حتى تتوسع طبقتها المتوسطة وتأخذ مساحة أوسع فى السياسة والإقتصاد والثقافة، خصما من حسابات الطبقة الإقطاعية. وتخفف من اعتماد مصرعلي الزراعة حتي تزداد القوة الشرائية لدي المواطنين ويساهمون في التجارة العالمية وشراء المنتجات الأمريكية.

وتكون مصر مساهمة في بعض الصناعات غير الأساسية مثل صناعات الغزل والنسيح التي ازدهرت فيها كثيرا بعد الحرب العالمية الثانية وبشكل ما كان ذلك ضررا لبريطانيا.

 

1937 عام تأسيس جيش مصر الحالي

أما المفصل الحاسم في حياة الجيش المصري فكانت سنة 1937 حين قررت الحكومة المصرية بطلب من بريطانيا التي تعرضت لضغوط أمريكية كبيرة لتغيير طبيعة الجيش المصري من جيش إقطاعي إلي جيش يشارك فيه أبناء الطبقة المتوسطة الصغيرة الذين زاد عددهم في البلاد نتيجة التصنيع المحدود الذي أدخل إلي مصر بطلب أمريكي.

ولأول مرة يدخل إلي الكلية الحربية في مصر طلاب ينتمون إلي الطبقة المتواضعة من غير الإقطاعيين وكان ذلك عام 1937.

فدخل إلي الكلية العسكرية أبناء الأسر مستورة الحال أو الضعيفة وأبناء الموظفين الصغار وإلي هؤلاء ينتمي “الضباط الأحرار” بقيادة عبد الناصر الذين رتبوا إنقلاب 1952 وحكموا مصر لتحويلها  إلى دولة تحقق الرؤية الأمريكية.

فحولوا البلد من الإقطاع إلي نظام (رأسمالية الدولة) أي امتلاك الدولة لوسائل الإنتاج ومصادر الرزق في البلد ومنها بدأت الدكتاتورية السياسية في الحكم منذ أن سيطرت الدولة علي الأرزاق و التجارة الخارجية والداخلية، فجاء الاستبداد السياسي تبعا لذلك. ولم تسمح الدولة بالعمل السياسي إلا للأحزاب التي أنشأتها بنفسها مثل الإتحاد القومي والإتحاد الإشتراكي.

ولم تسمح بأن يمارس حرية التعبير إلا من تأذن لهم الدولة من المفكرين والكتاب. فكانت ديكتاتورية فكر وسيطرة علي عقول الشعب بالقوة وإمتلاك الدولة لوسائل الإعلام من صحف وكتب ومسرح ومثقفين .

المشكلة هى أن دولة الضباط لم يكن لها مشروعها الخاص ولا فكر من أي نوع يصلح لعرضه في بلد كان يحوي أهم عمالقة الفكر وقتها. فتحصن الضباط بدرعهم التقليدي وهو ضرورات الأمن التي تتطلب رقابة وبطشا وتكتما أمنيا على كل شيء، حتى أحوال الطقس وفيضان النيل واعتبروا أي شيء لا يناسب عقولهم المسطحة الفارغة أنه تهديد للأمن القومي ومؤامرة استعمارية على ثورتهم وانجازاتها. والحقيقة هي أن هؤلاء الضباط (الأتباع) كانوا هم أخطر مؤامرة على مصر، فى طول التاريخ الممتد لآلاف السنين  و مازالت تنخر في بنيانها إلى الآن.

أنغمس عدد كبير من الضباط (الأحرار) وضباط الأمن العام في موجة الفساد التي تنمو بشكل تلقائي حول نشاط التنمية الرأسمالية وارتبطت مصالحهم معها وكانوا يقدمون لها الخدمات من خلال مراكزهم في السلطة السياسية مقابل أموال .

تلك الطبقة من الاقتصاديين والعسكرين زاد ثراءهم بالتدريج وأرتبطت مصالحهم بالدول الغربية الكبرى خاصة مع الولايات المتحدة .

هؤلاء شكلوا جماعة ضغط داخل النظام الاشتراكي من أجل التحول الي نظام اقتصادي منفتح علي الغرب .

وكان لهؤلاء رؤوس كبيرة داخل السلطة معروفين منهم أنور السادات و زكريا محيي الدين وغيرهما وعندما وصل السادات إلي الحكم حقق التحول الأكبر في مصر من داخل النظام. وتخلص من شبهة الإشتراكية التي صبغت بعض إجراءات النظام الإنقلابى الأول وانعطف السادات بكامل قوة النظام صوب تحول رأسمالي طفيلي بالكامل، غير منتج، مرتبط بقوة وصراحة بأمريكا والصداقة مع إسرائيل ثم التحالف معها .

انعكس ذلك التحول الاقتصادي علي الجيش كما إنعكس التحول السابق في قيادة الجيش من أبناء الإقطاعيين إلي أبناء الطبقة المتوسطة الذين قادوا الانقلاب علي النظام الملكي الإقطاعي .

في هذه المرة تحول الجيش من قيادة أبناء الطبقة المتوسطة الصغيرة ذوي الاتجاه الاشتراكي إلي أبناء الطبقة المتوسطة العليا ذوي الاتجاه الأمريكي المتصالح مع إسرائيل. حتي تمكن شخص أمه يهودية مثل الرئيس السيسي من دخول الكلية الحربية وهو أمر لم يكن قابلا للتصور في العهود السابقة حيث كان من شروط دخول للكلية الحربية أن يكون الطالب من أصول مصرية تمتد إلي الجيل الثاني من جهة الأب والأم معا.

وهكذا نري الآن الجيش المصري ذو طابع أمريكي صهيوني بضباط يؤمنون فعلا بالتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل إلي أقصي مدي ولا يشعرون بإي إنتماء وطنى تجاه مصر أو شعبها .

– هناك عشرات الآلاف من شباب مصر ولدوا في إسرائيل من زيجات مختلطة مع يهوديات ويحملون جنسية مزدوجة. وهؤلاء يمكنهم ليس فقط دخول الجيش بل الوصول إلى مرتبة رئيس دولة وجنرال مثل السيسي.

 

سياسة داخلية للجيش

العلاقات داخل الجيش المصري بين الرتب الأدني والأعلي مازالت علي حالها منذ العصر المملوكي من حيث إهدار الكرامة الإنسانية .

كما أن فترة التجنيد الإجباري كان ينظر إليها العهد الاشتراكي ثم العهد الأمريكي من بعده، لإهدار عمر الشباب فيما لا ينفعهم بل يمنعهم من المشاركة في مبادرات اجتماعية أو نشاط سياسي ويدربهم علي الخضوع والذل للسلطات الأعلى حتي صارا الشعب كله نتيجة التجنيد الأجباري كامل الخضوع للسلطة السياسية وشديد الخوف من أجهزة الأمن. بمعنى أن الجيش كان مؤسسة وطنية لتدريب الشعب على الذل والفساد والخضوع للسلطة.

ربما كان الأنسب لجيش مصري جديد ان يكون جيشا محترفا عالى التجهيز والتدريب تسانده قوة احتاط كبيرة هي عماد القوة البشرية والعددية. وهذا أقرب إلى نظام الجيش السويسري والإسرائيلي.

 

كيف نكوِّن الجيش الحديث؟.

ذلك أمر رغم صعوبته الا أنه سهل نسبيا بالنسبة لدول خاضت الحرب ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل مثل حرب غزة الحالية أو أفغانستان .

تلك الدول يمكنها ان تبدأ بتشكيل جيوش كما فعل الأفغان وكما يفعل الفلسطينيون في غزة حتي الآن .

فيبدأ تكوين الجيش بالبناء، حول قوات المقاومة التي شاركت مباشرة أو كانت قريبة من المشاركة والتي إكتسبت الخبرة.

ثم زاد من حيث العدد والنوعية والكفاءات التقنية والقيادة السياسية للحرب التي ظهر أن لها أهمية مثل أهمية القيادة العسكرية في الحرب كما ثبت ذلك بشكل إيجابي في أفغانستان وشكل سلبي في غزة .

وأن ينظر للجيش كمؤسسة وطنية لإعادة تربية الشعب علي ثقافة جديدة وبنيان اجتماعي متجانس قائم علي الإحترام والمساوة وإحترام الذات واحترام الغير، وعدم تحويله الي مؤسسة للسخرة الإجبارية والعمل المجاني حتي لو كان لصالح الدولة إلا لو كان التطوع اختيارياً، ويجب أن يكون راتب الجندي معادلا لراتبه في الحياة المدنية عندما كان خارج الخدمة .

إن إعادة بناء الجيش هو إعادة لبناء الأمة، وهذا ما فعله محمد علي باشا عندما قام بإعادة بناء الجيش المصري علي أسس جديدة .

لم تكن في وقتها مناسبة لمصر بل كانت مناسبة لشخص محمد علي باشا وحلفائه الفرنسيين .

فأعاد بناء الأمة المصرية بما يناسب مصالح أوروبا وليس مصالح شعب مصر وتاريخه وحضارته.

 

أجهزة بناء الأمة

هناك أجهزة أساسية مهمتها بناء الأمم أو تهديمها أو إعادة تشكيلها من جديد علي أسس وفلسفات مختلفة .

تلك المؤسسات هي :

1 ـ المعابد الدينية (المساجد والكنائس).

نحن نكسب الحروب في المعابد قبل أن نكسبها في ميادين المعارك ــ صن تزو.

2ـ المعاهد العلمية (المدارس والجامعات ومراكز البحث). العلم أساس بناء الأمم.

3 ـ أجهزة الإعلام (الصحافة ـ التلفزيون ـ الإذاعة).

الإعلام يبنى الأمم أو يهدمها. صحيفة واحدة خير عندى من فرقة في الجيش ــ نابليون.

4 ـ الجيش: وهو مدرسة كبري كما ذكرنا تمتزج فيها عناصر الإمة وثقافتها ومعتقداتها والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والطبقات ومن المهم أن يتم إعادة تثقيف الجنود علي المفاهيم الاجتماعية الجديدة وان تؤسس عليها العلاقات والتعاملات والقوانين داخل الجيش حتى تنتقل إلى خارجه.

فلا يوجد استعباد من الضباط الكبار للجنود ولا تسخيرهم لأداء أعمال خاصة ولا تعريضهم لعقوبات غبية تحط من كرامتهم ولا تفيدهم بشئ سوى تعريضهم للسخرية، أو استخدام الرشاوي من أجل الحصول علي أجازات .

فالجيش مؤسسة تربوية وتثقفية قبل كل شيء. والجيش هو صورة مصغرة للمجتمع الكبير ومنه يمكن استنتاج الكثير عن أحوال البلاد كما أن الحياة الاجتماعية في البلد تعطي صور عن حالة الجيش سلباً أو إيجابياً .

 

إجراءات كسب الحرب الحديثة

وهما نوعان:

أولا: إجراءات سياسية. فالسياسة بمعنى إدارة الشؤون العامة تهيمن على ما عداها من نشاطات. فهي العقل المدبر والحكمة المرشدة التي تقف خلف جميع النشاطات العامة.

ثانيا: إجراءات اقتصادية. من أهدافها جعل الحرب معادلة خاسرة بالنسبة للعدو بحيث تزيد خسائره عن المكاسب التي كان يسعي اليها. كما حدث في أفغانستان عندما تعدت تكاليف الحرب أكثر من قيمة مخزونات المواد الخام فيها.

أيضا أثناء تخطيطنا للحرب من الأهداف التي نتوخاها هو عرقلة النمو الاقتصادي للعدو وحلفائه الإقليميين والدوليين.

وجعل خطوط تجارتهم أطول وأخطر. كما حدث في تجربة إغلاق البحر الأحمر أمام الملاحة الإسرائيلية. بما  أجبر الكثير من الشركات التجارية أن تتجنب البحرالأحمر والالتفاف بالسفن حول رأس الرجاء الصالح مما زاد في أسعار البضائع والنفط. ومازال المجال مفتوحاً لجعل خطوط العدو التجارية أطول وحتي منعه من إستخدام بعض الطرق التجارية الحساسة في البر والبحر .

ونقصد هنا تحديداً إسرائيل وطريق تجارتها مع الهند التي تسعي إلي إنشائة للتجارة الهندية عبر أراضي بعض الدول العربية مثل الإمارات و السعودية والأردن .

 

الإتحاد بن الضعفاء للحصول على القوة

بذل جهد دولي مع الدول المستضعفة والأخري الصديقة مثل الصين وروسيا من أجل حرمان العدو من الإنفراد بالسيطرة علي العالم سياسيا وإقتصادياً .

عبر إنشاء تحالف دولي للمستضعفين حول العالم أي إنشاء نظام جديد ضد التغول الاستعماري لأوروبا و الولايات المتحدة والبنوك اليهودية. وهذا هدف ضخم وخطير قد يتطلب استكماله خوض أعمال عسكرية وحروب ومع ذلك فإن المهمة الأصعب هي :

 

الحرب الثقافية

خوض حرب ثقافية داخل كل بلد مستضعف لإصلاح الجذور الثقافية المحلية التي تشوهت بفعل التسلط الاستعماري والقهر الثقافي الذي مارسه علي الشعوب بفرض ثقافته باسم العولمة أو فرض الحضارة الغربية على الشعوب المتخلفة.

وهي في الحقيقة عملية أمركه وتهويد للثقافة الإنسانية ومحو كل الثقافات الأخرى. من الجوهري أن يعمل المستضعفون وأصدقاؤهم علي إقامة نظام تجاري عالمي عادل ومرن ومتكافئ، يتكامل أكثر مما يتنافس. (وذلك يحتاج إلى نوع من الحكومة العالمية. رغم أن هذا الصطلح أصبح يساء فهمه واستخدامه).

ومن أجل سد الفجوة التكنولوجية بين العالم المستضعف والعالم المتسلط أي بين النظام العالمي الجديد الذي نسعي اليه والنظام الاستعماري القائم يلزم بناء تعاون تكنولوجي لتكوين قنوات مشتركة في الجانب العلمي والصناعي والتسليحي .

حيث تثبت التجارب الإنسانية الحالية خطورة تلك الفجوة التكنولوجية علي سلامة وأمن الدول الصغيرة. بل تهدد بعضها بالإبادة الكاملة كما نشاهد الآن في غزة وقبل ذلك في أفغانستان والعراق وفيتنام .

كما تهدد مرارا أمريكا ومحورها الاستغلالي بمنع الشعوب المستضعفة من النهوض وتدمير ما شيدته خلال عقود بضربات تكنولوجية معقدة وحروب غير معلنة سيبرانية وبيولوجية تعيد تلك الشعوب إلي نقطة الصفر .

من أهم سبل النهضة هي إعادة ترميم العلاقة بين الإنسان والله. والتي علي أساسها تنصلح العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان علي أسس أخلاقية وروحية وليس بالقهر والاستغلال .

وتلك من المهام التي تستغرق زمنيا طويلا لإنجازها. فالزمن عموما هو جزء من حل مشاكلنا علي شرط أن نعمل بالطريقة الصحيحة. ومن الطبيعي أن يكون التغيير في التركيبة الذهنية والاعتقادية للإنسان بطيئاً وتدريجياً وعموماً هذا هو أصعب أنواع التغيير .

 

البنك الدولي لتجارب المستضعفين

من البديهي أن الإتحاد هو قوة في حد ذاته. ودعت اليه الأديان السماوية وجميع المصلحين في العالم. وهو شعار يغطي جميع نشاطات الإنسان من الأسرة والمجتمع البشري كله ، في الاقتصاد والثقافة ونذكر هنا بالتحديد التعاون فى المجال العسكري وحروب المستضعفين الحديثة في مواجهة الجيوش ذات التجهيز التكنولوجي المعقد .

فنقل التجارب القتالية والتنظيمية هو عمل حيوي في تطوير الحروب كذلك تطوير السلاح وتكتيكات الحرب و تبادل الخبرات والتعاون الميداني.

والأهم هو تطوير ذلك التعاون العسكري من الأشكال البسيطة الي الأشكال الأكثر تعقيداً وفاعلية .

كأن يسعي المستضعفون إلي إنشاء قيادة عسكرية واحدة أو علي الأقل غرفة عمليات عسكرية واحدة إلي جانب غرفة سياسية مكملة لها .

إن البنك الدولي لتجارب المستضعفين هو خطوة أكبر من النظام العالمي وهو خطوة لتوحيد الإنسانية كلها تحت نظام أخلاقي وإنساني متصالح مع نفسه ومع الله .

وبدل مبدأ الصراع التي ترفعه الحضارة الغربية يطرح المستضعفون شعارات التعاون والعدل والمساواة، وليس الصراع والتنافس الوحشي على الثروات.

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )

www.mafa.world