حوار مع أحد زملاء الحرب القدامى (1من3) : جذور الصراع

حوار مع أحد زملاء الحرب القدامى (1 من 3)
 
 

حوار الجمرات الهادئة 

جذور الصراع

– علاج المجتمع البشري.. وعلاج الجسد الإنساني.

– البدايات أولا ــ الدستور الأول للبشرية جملة واحدة ــ

اكتشاف العدو  وطبيعة سلاحه ــ (الرأي) الشيطاني في مقابل (الأمر) الإلهي.

– الأفضلية بين “العنصر” و “العلم” ــ

– ظهور “القوة الصلبة” في صراع الحق والباطل.

– انحراف فكرة الدولة المؤمنة ــ بني إسرائيل يحكمون الأرض ــ

– مازلنا نجهل كيف نتعامل مع اليهود بعد أن أصبحوا اليوم في مكة والمدينة، يبثون التقارير الإخبارية والأفلام  من هناك .

– لو أن لدينا فقها صحيحا لِما جاء في القرآن الكريم عن بني إسرائيل، لمنعناهم من السيطرة علي مكة والمدينة بعد أن سيطروا علي القدس .

– لو أننا نفهم معنى القرآن الكريم، لما تمكن اليهود من أن يُحَوِّلوا فريضة الحج إلى أحد مفردات برنامج سياحي دولي ، المسلمون أفقر زبائنه وأقلهم شأناً .

– الأمة الإسلامية في حاجة إلى مجاهدين في مجال العلوم الشرعية كحاجتها إلى مجاهدين في ميادين القتال .. بل أكثر بكثير.

بقلم  : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري

 

 

(مقدمة الجزء الأول )

حول الجمرات الهادئة .. قال أحد زملاء الحرب القدامى :

لا يجب أن نكتفي – دائما ــ بالحديث عن الخطر والتبشير به، ماذا أعددنا له؟، إن لم نكن حَضَّرْنا شيء فماذا علينا أن نفعل؟ فإن كنا بحالة من الضعف فكيف نقاوم حتى نستعيد المبادرة؟، الطبيب الماهر يشخص المرض ويصف الدواء ويحدد جرعاته وأوقات تلك الجرعات وكم من الوقت تستغرق عملية الشفاء، وماذا يأخذ المريض من مقويات في فترة النقاهة، وما أول خطواته بعد الشفاء، وهكذا إلى أن يعود لحالته الطبيعية.

 

فأقول وبالله التوفيق :

علاج المجتمع البشري.. وعلاج الجسد الإنساني:

رغم التطور العلمي الكبير فإن الطب لم يصل إلي درجة اليقين في علاج الأمراض ، غير أنه تحسن كثيرا من حيث الأداء والنتائج .

إلا أنه مازال يحمل قدرا كبيراً من عدم اليقين. فالجسد الإنساني ليس علي درجة واحدة من الاستجابة للعلاج . كما أن الأمراض نفسها تمتلك قدرة على التطور، فتقاوم وتجعل الطب نفسه في حاجة إلى المزيد من التطوير. وسيظل الأمر كذلك إلى الأبد. سوف يبقي صراع الأمراض مع العلاج مستمرا . وتلك هي سنة الحياة، فلن يقضي أحدهما على الآخر، فبهما معا تكتمل دورة الحياة ، بل أنهما جزء من معناها وأسرارها.

– أما إذا كان المريض هو المجتمع البشري وليس الجسد الإنساني فإن موضوع العلاج يصبح أعقد بكثير جداً . هناك تشابها ظاهرياً من بعض الوجوه الا أن الخلاف بينهما جذري .

طب المجتمعات في حاجة الي الارتكاز المباشر على منهج علاج سماوي يتمثل في الأديان والرسالات كمنهج حياة. ويعتمد في الأساس على الرسل كمرشدين وأساتذة في ذلك الطب. ويحتاج من الإنسان إلى الاجتهاد في الإتباع والطاعة حتي يصل درجة الشفاء . ويحتاج المجتمع إلي مثابرة وإيمان للإبقاء على حالته الصحية جيدة إلى أطول مدى ممكن .فالمعصية هي جرثومة مرض المجتمعات .

وتاريخ الرسالات يقول أن المجتمعات البشرية أبدت استجابات مختلفة تجاه العلاج. فبعضها قاومه بشدة وأفشله تماما. فكانت نتيجة العلاج أنه (لم يُشْف أحد) رغم أن المنهج جاء من السماء . والرسول كان هو الطبيب المعالج. ولكن الإنسان رفض العلاج. والنتيجة كانت صفر. أي مجتمع معاند، ومرض متفاقم. وموت المجتمع واستبداله كان هو النتيجة الحتمية.

– تكررت التجربة آلاف المرات خلال تاريخ البشر. والنتائج لم تكن واحدة.

(124000 نبي ، وأربع كتب سماوية .. وربما أكثر).

ونحن الآن في يدنا دستور العلاج الإنساني المتمثل في القرآن الكريم. وفي يدنا الشرح العملي متمثلا في السنة النبوية المُشَرَّفَة. ونحن مسئولون الآن لتفعيل تلك الطاقات لعلاج الإنسانية من أمراضها المستعصية .علينا أن نقوم بذلك بينما نحن أنفسنا مَرْضَي وفي حاجة إلي علاج، ولا نكاد نفقه شيئا في أمور طب المجتمعات، الذي هو تخصص الأديان . ومع ذلك علينا أن نسعي ونفكر كيف نؤدي تلك المهمة في ظروفنا اليائسة وحالة المجتمع البشري التعيس.

– سنعتبر أنفسنا حققنا أقصى درجات النجاح إذا تمكنا من وضع قدم واحدة في بداية الطريق الصحيح . أما باقي الطريق فالعلاج مسئولية تتقاسمها أجيال ورجال ينجبهم المجتمع وتصطفيهم السماء .

 

البدايات أولاً :

لم يتركنا الله بلا عون في تلك الظروف الخطرة، أمام تلك المهمة المستحيلة. فقد أعطانا سبحانه وتعالي دستور العمل وهو القرآن الكريم. كما أعطانا آخر الرسل وأكرمهم محمد(صلي الله عليه وسلم ) الذي  كانت سُنَّتَه هي الشرح العملي والتوضيح الكافي لتطبيق ذلك الدستور(القرآن). فإذا كان القرآن هو الدستور فإن السُنَّة النبوية بمعناها الشامل هي المرجع التوضيحي للعمل بذلك الدستور . فهما مترابطان بشكل لا يمكن فصله. ولا يمكن لنا أن نعمل بشكل صحيح في ميدان العلاج (الهداية الاجتماعية) بدون القرآن والسُنَّة معاً .

في الطريق إلى معرفة جذور تلك المعضلة التي نواجهها الآن لعلاج المجتمع البشري، نجد أن المسلمين أنفسهم تحت ضغط رهيب ومتواصل، لا يترك لهم فرصة للتفكير الصحيح . وقد أرهقتهم التفاصيل وتاهوا في المتغيرات التي تطحن مجتمعاتهم واُسَرَهم، وحتي استقرارهم النفسي والعقلي.

فقد سلط عليهم العدو عَصْفاً فكرياً شتت أفكارهم وخلط الأمور ببعضها. ونادراً ما تجد أحد يفكر بشكل منطقي وسليم. فقد خصص العدو أفضل منتجاته في العلوم والتكنلوجيا من أجل التأثير على عقول البشر وتعطيلها عن العمل الصحيح. وتحويلهم إلي أرقام ضمن قطيع من الماشية تتحكم فيه مجموعة صغيرة من أعداء الله وأعداء الإنسان.

– من المفيد والضروري حتي نعيد بنيان منطق صحيح لتفكيرنا أن نبدأ من نقطة الصفر، أي البداية المبكرة جداً للإنسان ،عندما كان آدم أبو البشر في الجنة مع زوجته حواء. كانت نقطة البداية للمعركة الكبرى للإنسان في هذا الوجود مع عدوه الأساسي وهو ـ إبليس ـ “الشيطان” الذي ذَكَّرَه الله في القرآن الكريم في مواضع متعددة ومن عدة زوايا، حتي لا تكون الصورة غامضة في ذهن البشر. فتلك الصورة إذا كانت مشوشة أو غير مفهومة فكل ما سيأتي بعدها سيكون أسوأ. ويبدو أننا لم نفهم نقطة البداية جيداً. لهذا لم نفهم بشكل صحيح ، طبيعة النقطة التي نقف عندها الآن. فكيف ننطلق إلى صراع بهذا التعقيد وتلك القسوة ؟؟.

 

الدستور الأول للبشرية : جملة واحدة.

كان الجنس البشري كله موجوداً في الجنة، وكان مكوناً من شخصين فقط هم آدم وحواء. وقد توفر في الجنة جميع ما يلزمهما وأكثر، بما يتناسب مع الجود والكرم الإلهي .

وفي هذه الحياة البسيطة وضع الله لهم دستورا للحياة في الجنة مُكَوَّن من جملة واحدة وهي (لَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ) .وكم كان ذلك صعبا في وجود الشيطان!!.

ومن هذا نستنتج أن الحياة البسيطة لا تستلزم دستوراً معقداً. كما نستنتج أن الدستور مهما كان مختصراً وسهلا وواضحاً فإنه مُعَرَّض للاختراق والتجاوز كما حدث لآدم وحواء في الجنة.

– تعرض البشر لأول خديعة في التاريخ، من العدو الأساسي للإنسان وهو الشيطان، الذي أغراهما بتناول ثمار تلك الشجرة المحرَّمة، بعد أن كذب عليهما وأقسم لهما أنه من الناصحين، وأن ثمار تلك الشجرة ستجعلهما من الملائكة أو من الخالدين . فصدقاه فكان عقابهما الطرد من الجنة وبداية قصة الجنس البشري علي أرضنا الحالية . ومع ذلك فإن هذه السقطة الكبرى كان لها فائدتان في حياة الإنسان علي الأرض.. هما:

 

أكتشاف العدو ، وطبيعة سلاحه :

1ـ ظهور شخصية العدو الأساسي للجنس البشري وهو الشيطان. وقد حذر الله آدم وحواء من ذلك العدو الذي تعهد بإضلال ذرية آدم وجعلهم من العُصاة وأهل النار.

2 ـ  اكتشاف طبيعة سلاح العدو. وأن الخديعة (الغواية) هي سلاح الشيطان في إضلال الإنسان. وأن ليس للشيطان قوة على إجبار الإنسان على المعصية، إذ يمكنه أن يرفض الخديعة، التي تعني الكذب والغواية والتدليس. كما تعني أيضا المؤامرة، التي يجتهد (المتآمرون الحقيقيون) في إقناع المغفلين أن لا شيء يسمي مؤامرة . وأن الحديث عن التآمر هو ضرب من السذاجة و المرض بما أسموه “نظرية المؤامرة” .

نكرر مرة أخري أنه من الدروس التي خرج بها آدم وحواء من الجنة هما درسان: الأول أن إبليس هو العدو الأول للجنس البشري منذ لحظة البداية وإلى قيام الساعة.

والدرس الثاني : أن الخديعة(الغواية) والكذب هما سلاح إبليس ضد الإنسان. وأنه لا يمتلك القوة أو القدرة علي إجبار الإنسان علي المعصية .

 

(الرأي) الشيطاني في مقابل (الأمر) الإلهي:

الدرس الأكبر المستفاد من معصية آدم التي تسببت في طرده من الجنة، درس يقول أنه لا رأي لأي مخلوق في مقابل الأمر الإلهي. فذلك رأس كل معصية . فمنذ معصية آدم الأولى وحتي الآن، وكلما تقدم الشيطان إلى بنى آدم برأي، ادعى أنه أفضل من الأمر الذي أصدره الله.

وعندما نتفحص في كل معصية يقع فيها البشر (بما فيهم المسلمين)، وتسببت في كارثة كبرى، نجد أن مصدرها الاقتناع بأن هناك رأي له الأفضلية على الأمر الإلهي.

– كما نلاحظ الآن، أن الدعوات إلى حقوق الإنسان، تعنى عدم حظر أي شيء ، وإسقاط المحرمات التي حرمها الله ، بدعوى أن ذلك من الحرية التي هي حق من حقوق الإنسان. وكذلك فعل الشيطان بغواية الإنسان في جميع الأشياء الأخرى التي من أبرزها حقوق المرأة. تلك “الحقوق” التي قضت علي إنسانيتها وحولتها إلي سلعة رخيصة ومبتذلة .

وكذلك تجاوز الإنسان عن تحريم الربا ، بذريعة أنه وسيلة إلي الغنى وتقوية الاقتصاد . والنتيجة أن الربا يقف وراء كل المشاكل الاقتصادية في العالم بشكل مباشر أو غير مباشر .

 

الأفضلية بين “العنصر” و “العلم” :

رفض إبليس تنفيذ أمر الله بالسجود لآدم. ورغم أن دافعه الذاتي كان الغرور والحسد، إلا أن التعبير المباشر كان مبارزة الأمر الإلهي بالرأي الشخصي. فقال أنه يرفض تنفيذ أمر السجود كونه أفضل من ذلك الكائن الجديد، المخلوق من عنصر محتقر هو الطين ، بينما إبليس مخلوق من نار ،وباقي الملائكة مخلوقون من نور ، وبالتالي لا ينبغي للعنصر الأرقي أن يسجد للعنصر الأدنى. ولكن حكمة الله في الخلق لا تخضع لمثل هذا المنطق الشيطاني. لأن علم الله الشامل لا يصل إليه أي مخلوق ، حتي الملائكة أو الجن.

لقد كرَّم الله سبحانه وتعالي ذلك الكائن الجديد (آدم) وأمر الملائكة بالسجود له لأسباب لا يعلمها الا هو . وقد أوضح جانبا منها، وهو العلم الذي أعطاه لآدم ولم تكن الملائكة تدري عنه شيئا .( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) تلك هي الميزة الكبرى التي منحها الله لآدم وجعلته أفضل من الكائنات ذوات العنصر الراقي، سواء النور أو النار. فكان يجب عليهم السجود طبقا لما أمر به الله وكشف لهم عن جانب من حكمته تلك.

– نُذَكِّر مرة أخري أن خطيئة إبليس الأولي هو أنه وضع رأيه في مقابل أمر الله فاستوجب بذلك اللعنة والطرد من الجنة. وعندها طلب إبليس مهلة إلي يوم القيامة حتي يثبت قدرته علي إضلال ذلك المخلوق الجديد والتفوق عليه وجعله يعيش بعيداً عن أوامر الله ويحيا حياة شيطانية علي الأرض . فمنح الله سبحانه وتعالي تلك الفرصة لإبليس محذراً إياه من أن عباد الله لن يكونوا خاضعين له، وأن مصيره نار جهنم هو ومن يتبعه من الناس .

ومن تلك اللحظة بدأت الحرب الأبدية بين إبليس والإنسان. ولم تنقطع أو تتوقف في أي عصر من العصور أو مكان من الأماكن. الخطأ الأكبر الذي يقع فيه البعض هو أن يظن أن هناك أي نوع من الشرور أو الكوارث التي تقع للإنسان هي خارج نطاق تلك المعركة، أو أن إبليس ليس وراءها . فقد نسي معظم الناس الدرس الأول الذي تعلمه آدم وهو أن العدو الأول للإنسان هو الشيطان، وأن وسيلته هي الغواية وليست القوة المادية (الصلبة) أو العنف المباشر.

 

ظهور “القوة الصلبة” في صراع الحق والباطل:

–  ولكن كيف ظهر عنصر “القوة الصلبة” في الصراع بين الحق والباطل .. ومتي؟ .. وإلي أين ؟ .

فطالما أن سلاح الشيطان هو ما يطلقون عليه الآن “القوة الناعمة” التي تعتمد علي الكذب والغواية والاستدراج بدون عنف، فإن المواجهة ستكون أيضا بقوة ناعمة مضادة هي الدين وما يحتويه من مبادئ أخلاقية وقيم معنوية وعلاقة مباشرة وصافية بين العبد وخالقه، وعلاقة قائمة علي المودة والاحترام والرحمة بين الإنسان وأخيه الإنسان. ثم تجئ العبادات لتثبيت تلك المبادئ والمشاعر في النفس البشرية وتقوية العلاقة بين العبد وربه وإبقاء مبادئ الدين وتعاليمه فاعلة في المجتمع.

أي أن “التدين النشط “هو العاصم من استدراج وغواية إبليس وقواه الناعمة .

 

 

ماذا لو أن أعوان أبليس إستخدموا السلاح ؟.

ومتي إستخدموه لأول مره؟.. ولماذا ؟.

أول قصة أوردها القرآن الكريم بعد خروج آدم من الجنة، هو ذلك الصدام التاريخي بين الأخوين قابيل وهابيل . حين وقعت أول جريمة قتل في التاريخ البشري. و لم يكن قد مضى على خروج ( آدم وحواء) من الجنة سوى وقت قصير.

لذلك لم يكن هناك أي مجال للكفر وإنكار وجود الله كما حدث في العصور المتأخرة . كما لم يكن هناك مجال لتمجيد الشيطان والمجاهرة بعبادته.

فلماذا قتل قابيل أخيه هابيل، وكلاهما مؤمن بالله ويعبده، وكان التنافس ــ في ظاهره ــ محصورا في تقديم القرابين والعبادة ؟؟.

لقد جاءت الجريمة من داخل معسكر الإيمان نفسه ، لم يذكر القرآن الكريم أن إبليس قد وَسْوَس لقابيل بشي بخصوص جريمة القتل. ولكن بصمات إبليس كانت واضحة في أقوال قابيل قبل أن يرتكب جريمته .

إذ أعرب عن اعتراضه علي قبول الله سبحانه وتعالي  لقربان هابيل ، ورفض القربان الذي تقدم به قابيل، الذي كان يري نفسه الأفضل والأغنى، وبالتالي فإن الله كان (يجب) أن يتقبل قربانه هو ليس قربان هابيل الأصغر والأفقر. (وتلك أحدى بصمات إبليس  في مسرح الجريمة. أي مواجهة الأمر الإلهي بالرأي الشخصي).

أعترض قابيل علي الله بالقول، ثم تطور رفضه إلي قرار بقتل أخيه. فكانت تلك أول دماء بشرية تُسْفَك علي ظهر الأرض . والسبب هو الشعور الكاذب بالأفضلية الشخصية (كما كان إبليس من قبل يشعر بأنه أفضل من آدم، ورفض تنفيذ أمر الله بالسجود له. كذلك قابيل رفض أن يتقبل أفضلية هابيل وما يقدمه من قربان، فقرر قتله ) .

كشف لنا القرآن أنه بعد ارتكابه لجريمة القتل أتضح لقابيل عجزه عن إخفاء آثار عمله، فوجد نفسه متورطاً أمام جثة أخيه القتيل إلي أن بعث الله له غرابا علَّمَه كيفية الدفن. واكتشف قابيل أنه ليس عظيما إلى تلك الدرجة ، حتى أن الغراب أفضل منه وأكثر علما، إذ عجز أن يكون مثله و يواري سوأة أخيه في التراب .

– ومن هنا نستنتج أن معسكر الباطل تنتابه الأمراض النفسية والسلوكية في أعقاب كل قتال (ينتصر) فيه علي معسكر الحق . فيزداد وحشية، حتي في التعامل بين أفراده، الذين يصابون بأمراض نفسية ويرتكبون جرائم بشعة داخل مجتمعاتهم.

وذلك مشهور بين الجنود الذين يعودون من معارك القهر والسيطرة على باقي الشعوب المستضعفة التي لا حول لها ولا قوة . أو حتي الحروب بين دول معسكر الباطل نفسه . فالقتل ينقلب عليهم بالمرض والجنون وانحسار المشاعر الآدمية والارتداد إلى طبيعة وحوش الغابات.

– أفتتح قابيل عصر استخدام القوة ضد المؤمنين وتصفيتهم جسدياً. فكان ذلك أول( فتح شرير) في تاريخ البشرية. وتميزت تلك الطريقة بالحسم والنتائج السريعة المباشرة ، ولكنها كانت أسوأ أثراً علي معسكر الشر نفسه علي المدي الطويل .

بينما صار معسكر المؤمنين أكثر صلابة، وظهرت فيه الروح الاستشهادية والرغبة في البذل والتضحية .

ومع هذا لم يَرِدْ في القرآن الكريم ما يفيد بأن معسكر الخير وأتباع رسالة السماء قد أجابوا باستخدام نفس الأسلوب العنيف. بل استمروا في إتباع منهج النصيحة والإرشاد (القوة الناعمة). فلم يكن ممكناً أن يلجأ المؤمنون إلى استخدام السلاح بدون إذن من الله، لأن عملية القتل خطيرة وثقيلة جداً، وحسابها عند الله عسير.

– وما نلاحظه في القرآن الكريم أن أول مجموعة من المؤمنين طالبت باستخدام القوة ضد الكافرين كانوا هم بنو إسرائيل . إذ طلبوا من نبي لهم أن يبعث عليهم ملكا يقاتلون تحت رايته:

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)… البقرة: (246)

أوضحت الآية أنه من الحِكَم الكامنة في تأخير فريضة الجهاد على المؤمنين هو الشفقة عليهم من عدم تنفيذ الأمر، كونه شديد الوطأة على النفس . وبالتالي يكون الإنسان أقرب إلى عدم إجابة الأمر والوقوع في المعصية. وفي هذا ذنب عظيم، إذ يتحول المؤمن إلي ظالم لنفسه حسب نص الآية (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

– وخلال قصة بني إسرائيل مع فريضة الجهاد فإن السورة أوضحت أنهم دخلوا إلي مرحلة الدولة المؤمنة بعد أن كانوا مجرد جماعة مؤمنة قبل أن يُفْرَض عليهم القتال. وبهذا أخذ الإنسان مساراً جديداً علي ظهر الأرض، كما جاء في الآية:

(فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) … البقرة: (251)

– لقد أصبح الجهاد فريضة للدفاع عن النفس والدين، وعن باقي الحقوق التي كفلها الله لعباده. وعلي الجانب المعادي للدين تَرَسَّخ مبدأ استخدام القوة لاستئصال المعسكر الإيماني أو إرغامه على التنازل عن كافة حقوقه المادية والمعنوية، بما فيها حقه في الإيمان بما جاء في الكتب المقدسة .

 

إنحراف فكرة الدولة المؤمنة :

– من الظاهر أن فكرة الدولة المؤمنة نشأت مع فريضة الجهاد ، الذى يعني الدفاع المسلح ضد عدوان خارجي هدفه الاستئصال و انتزاع الحقوق بما فيها الثروات والأرض والموارد.

والدولة مرتبطة بفكرة الدفاع، حتي أن النظام الحاكم للدولة يفقد شرعيته إذا فشل في الدفاع عن شعبة وأرضة ودينة ومعتقداته.

والدفاع يعني العمل العسكري في الأساس. وأهم مبادئ العمل العسكري هو (الحشد). والحشد يعني تجميع الطاقات البشرية والمالية والماديات الضرورية للحرب تحت قيادة واحدة من أجل إعطاء أكبر تأثير ممكن وأعظم قدرة على تحقيق النصر.

حتي أن تحريض القرآن علي الجهاد جاء بتلك الصيغة التي تدل على حشد الطاقات:

( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ )… الأنفال: (60)

– أكتشف المؤمنون أن الروح المعنوية عامل حاسم في القتال. وفي بعض الأحيان يكون تأثيرها أكبر من باقي العناصر المادية من سلاح ورباط خيل . وحتي أكبر من العناصر الاحترافية في الحرب مثل الإستراتيجية والتكتيك . وعموماً يكون الحافز الديني عنصراً هاماً عند اشتداد وتيرة الاقتتال والصبر علي طول مدة الحروب وتواصلها.

لهذا كانت الحروب الدينية عظيمة النتائج. وكلما كان الحافز الديني صافيا وقوياً كانت الانتصارات أعظم . لهذا يحرص الحكام في جميع الأزمنة علي إدخال العنصر الديني/ ولو شكلياً / كأحد عناصر رفع الروح المعنوية لجيوشهم وشعوبهم.

– وهنا ظهرت النقاط السلبية في موضوع الدولة والفتوحات الدينية، وحشد الموارد البشرية والمادية تحت قيادة مركزية واحدة قوية.

بدأ الانحراف بأن تركزت القوة والموارد والرجال والطاعة المتلبسة بالاحترام الديني والتقديس، تجمع ذلك في يد قيادات بدأت تعمل لمصالحها الشخصية ومصالح عائلاتها الحاكمة. وبدلاً من الدفاع عن المجتمع والدولة المؤمنة، انتشرت فكرة توسيع رقعة الدولة وتقويتها بالفتوحات والمزيد من الممتلكات والقدرة على الحشد المالي والبشري.

فظهرت إمبراطوريات من النوع التقليدي التي يسيطر عليها الشخص والعائلة، ويستخدم فيها الدين كوسيلة لتثبيت أركان الإمبراطورية وتوسيعها، واكتساب تأييد الناس للنظام الوراثي الحاكم / نظام الفرد والعائلة/ وكأنه جزء من العقيدة الدينية نفسها

– إذن البداية كانت الحاجة إلي بناء الدولة (كوسيلة) لحماية المؤمنين وعقائدهم. فتحول الأمر مع الوقت لتصبح الدولة هي الغاية. بل تطور الأمر أكثر إلي أن تتحول الدولة إلي إمبراطورية وملك عضوض ودموي. فيتَقَزَّم دور الدين والمؤمنين إلي مجرد أدوات لخدمة سلالة حاكمة ومُلك وراثي ، يستغل مشاعر المؤمنين وعواطفهم الدينية.

إنها إمبراطورية مادية ترفع شعار الدين، وتهيمن عليها قِلَّة تمتلك الثروة والقرار السياسي . بل وتحتكر التحدث باسم الدين باعتبارها الممثل الأوحد والشرعي له . أو أنها العائلة المقدسة التي تجسد معنى الدين. لقد بدأ الأمر لتكون الدولة في خدمة الدين، ووصل الحال لأن يكون الدين أحد مسامير تثبيت أركان الدولة. بدون عناية حقيقية بتطبيق أحكامه في حياة الناس وأعمال الدولة.

 

بني إسرائيل يحكمون الأرض :

جاء في سورة الأسراء المباركة قوله تعالي:

( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) ).

تشير الآية الكريمة إلى ارتفاع كبير جدا في مكانة بني إسرائيل في العالم لمرتين. إلى درجة أسماها القرآن (علوا كبيرا) أي شأننا عالياً جداً ومؤثر في مجمل أمور البشر، ولكن ليس إلي درجة الحكم المباشر كدولة عظمي أو إمبراطورية. فهي ليست مُلْكاً كالذي منحه الله لنبيه (سليمان). وهو ليس علوا أخلاقياً ولا دينياً .بل ملكاً ماديا قائم علي الفساد والإفساد. وتشير الآيتين إلى أن رفعة بني إسرائيل في الأرض وعلوهم مرتبط بإفسادهم في الأرض. وكأنهم بسبب هذا الإفساد يرتفعون ويكتسبون القوة.

والارتباط بين إفساد بني إسرائيل وعلوهم في الأرض واضح تماما في الصياغة القرآنية (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) الإفساد في الأرض والعلو الكبير، هما وجهان لحقيقة واحدة. وهذا يعنينا كثيرا لأن أحدهما يدل علي وجود الآخر.

فتواجد بني إسرائيل في أي مكان يشير الي ظهور العنصرين معا: الإفساد والعلو. ومن الآيات نفهم ضمناً أن أسلوب سيطرة بني إسرائيل علي الأرض لا يعتمد علي قوتهم الذاتية فقط . فالمعلوم عنهم قلة العدد بالنسبة لباقي الأمم. فمن أين جاءتهم الأموال والبنين ليكونوا أكثر نفيراً ويتغلبوا علي عباد الله الذين جاسوا خلال الديار؟.

إن بني إسرائيل كما هو واضح من التجارب التاريخية الطويلة يستغلون الموارد البشرية والمالية للشعوب الأخرى لخدمة مآربهم وسيطرتهم علي العالم. هم يقدمون فقط الحيلة والخبرة في اكتساب المال بشتي الطرق غير المشروعة.

وتلك علامة أخرى تدل على وجود بني إسرائيل. فحيثما وجد نشاط غير أخلاقي في اكتساب الأموال وتكديسها فهذا يدل علي وجودهم .

وأكبر إشارة علي تواجدهم المسيطر على شئون العالم هي البنوك الكبرى وما يتفرع عنها من استثمار مالي ربوي كبير الحجم، مثل الشركات العظمى العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات.

– نتيجة للخبرة المريرة والمكثفة بين العرب وبني إسرائيل. خاصة منذ بدايات القرن العشرين وحتى الآن. أي منذ بداية استعمارهم المستتر ثم العلني لفلسطين، وصولا إلي هيمنتهم الكاملة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً واستخبارياً علي جزيرة العرب مع تواجد عسكري غير ظاهر .

كل تلك التجربة المريرة وما صاحبها من انحراف وانهيار ديني وأخلاقي ومادي في بلاد العرب ، كل ذلك يستدعي التمعن في ما جاء عن بني إسرائيل في القرآن الكريم، خاصة سورة الإسراء .

ويحتاج المسلمون والعرب بشدة إلى مجتهدين في العلوم الدينية. حتى يصبح فهمنا لآيات القرآن الكريم التي تتعلق ببني إسرائيل وما جاء في سورة الأسراء، يصبح ذا قيمة إيمانية وعملية في نفس الوقت.

فما بين أيدينا من تفسير، وما يحتويه الوعي العربي والإسلامي حول ذلك الموضوع، مازال كما كان قبل قرون كثيرة مضت . وذلك ناتج من عدم القدرة على الاجتهاد وفهم النصوص على ضوء الواقع الذي يعيشه المسلمون والعالم.

وتجربتنا الحالية مع بني إسرائيل هي أكثر مرارة وأكثر تشعباً مما كانت منذ قرون . ولكننا مازلنا نفهمها بنفس الفهم القديم يوم أن كانت الغَلَبَة والسيطرة في العالم هي للمسلمين. وتجاربنا الكبرى مع بني اسرائيل انقطعت عملياً بعد غزوة خيبر. لذا مازلنا نجهل كيف نتعامل مع اليهود بعد أن أصبحوا اليوم في مكة والمدينة، يبثون التقارير الإخبارية والأفلام  من هناك . وتقوم شركاتهم بطمس تراثنا وتاريخنا الإسلامي هناك لتبني بديلا سياحيا وترفيهيا، وحتى وثنيا متهتكا.

– لو أن لدينا فقها صحيحا لِما جاء في القرآن الكريم عن بني إسرائيل، خاصة في سورة الإسراء ، لكان موقفنا في الصراع مع اليهود أفضل بكثير . وربما كنا منعناهم من السيطرة علي مكة والمدينة بعد أن سيطروا على القدس .

ــ  لا يمكن فهم التفاسير القديمة في هذا الخصوص إلا بعد تنقيتها أولا  من فقه (علماء سلاطين السوء )، الذين أوصلونا إلي ما نحن فيه.

ــ  ولابد من فهم التجارب البشرية مع بني إسرائيل ، علي الأقل خلال القرون الخمسة الأخيرة . وبدون ذلك فنحن نردد كلاماً لا ندرك أبعاده الحقيقية . وبمعنى أخر: نحن نردد ونكرر النصوص الدينية .. ولكن بلا فقه.

ولو أننا نفهم معنى القرآن الكريم، لما تمكن اليهود من أن يحولوا فريضة الحج إلي أحد مفردات برنامج سياحي دولي ، المسلمون أحد زبائنه، بل أفقر هؤلاء الزبائن وأقلهم شأناً .

الأمة الإسلامية في حاجة إلى مجاهدين في مجال العلوم الشرعية كمثل حاجتها إلى مجاهدين في ميادين القتال .. بل أكثر بكثير.

 

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )

www.mafa.world