ذات يوم (17)..ليلة سقوط كابل 1 .. إنسحاب الفارس العربي الأخير

ذات يوم (17)

ليلة سقوط كابل .. (1) .
إنسحاب الفارس العربي الأخير

 

كان أبو المقداد هو آخر من إنسحب من العاصمة كابل، بعد سقوطها فى يد تحالف الشمال، الذى ساندته طائرات (بى 52) فى تحطيم خط الدفاع الأول لحركة طالبان .

–  فى صباح الثلاثاء 13 نوفمبر(2001)، ونتيجة لجهله بسقوط  خط الدفاع ليلة أمس، كان أبو المقداد هو أشجع العرب، إذ يمشى وحيداً فى أحد أهم شوارع كابل فى حي وزير أكبر خان .

كانت الشوارع شبه خالية فى ذلك الوقت من ضحي الخريف المنعش. وكان أبو المقداد ـ العضو فى تنظيم الجهاد المصرى ـ ينوي زيارة بعض أصدقائه العرب فى أحد مضافاتهم فى العاصمة .

أفراد قلائل كانوا يسيرون بعيداً، توقفوا وهم  يحدقون بأبصارهم ، ويشيرون بأصابعهم نحوه ، وكأنهم مندهشون .

نظر أبو المقداد إلى نفسه فلم يجد شيئا خارجاً عن المألوف. ثم هو يسير فى نفس الشارع كل يوم ، بدون أن ينظر إليه أحد بهذه الطريقة المقتحمة .

كان يرتدى نفس الملابس التى واظب عليها منذ توترت الأوضاع فى خطوط الدفاع شمال للعاصمة. كان يرتدى جعبة ذخائر يعلقها على صدره ويربط حزامها حول خصره،  وقد حشاها بثمانية مخازن لذخيرة الكلاشنكوف الذى يحمله فوق كتفه.

وقد تزوَّد بعدة قنابل يدوية  تطل من الجعبة وتثير الخوف . وفوق ذلك لَفَّ أبو المقداد رأسه بعمامة سوداء.

كان ضخماً، ذو لحية عظيمة نامية فى جميع الإتجاهات  ، منبسط الجسم طولاً وعرضاً، ينضح بالعنفوان والصحة، ويمشى بتؤدة وكأنه فارس يتقدم إلى المبارزة متحدياً أمام الجيش قبل بدء الإلتحام .

–  أراد التخلص من التوجس الذى يحيط  به فى هذا الشارع على غير العادة،. فأشار إلى سيارة أجرة ليستقلها إلى الميدان الرئيسى .

وما أن أشار بكفة حتى صرخت فرامل أحد التاكسيات وتوقف أمامه .

نزل السائق وفتح له باب السيارة، وتكلم معه بعذوبه كى يتفضل بالركوب. وكان ذلك غير مألوف بالمرَّة ، و يشاهد لأول مرة فى أفغانستان.

ركب أبو المقداد فى المقدمة  ، بينما إستدار السائق من أمام السيارة ليجلس خلف المِقْوَد، لولا أن تاكسى آخر توقف بعنف، أمام سيارتة قاطعاً الطريق عليه، ونزل منه عملاق غاضب أمره بأن يتخلى عن(الزبون). ثم توجه فورا إلى الباب المقابل لأبى المقداد وفتحه بقوة، ورجاه أن يتفضل ويتكرم بالركوب معه، لأن السائق الآخر لص وغير جيد .

بالمصادفة البحتة كان السائقان يتكلمان القليل من العربية. وكلاهما من مناطق الشمال التى تعيش فيها المعارضة المسلحة . تشابك السائقان لفترة قصيرة وإنتصر السائق الثانى لكونه الأقوى جسمانياً . فرضخ أبو المقداد وركب معه ليوصله إلى الميدان التالى. وما أن توقفا  هناك حتى وصل السائق الأول ومعه عدد من أصدقائه كى يسترد (الزبون). فنشبت معركة بدأت بالصراخ ثم التشابك بالأيدي . معركة رأى أبوالمقداد أن لا ناقة له فيها ولا جمل. { كان مخطئاً ، لأنه/ وكما أثبتت له أحداث ذلك اليوم/ كان مِحْوَر المعركة ، ودمه  كان السلعة ، كما أنه ليس الزبون ، بل الأمريكان كانوا الزبون الذى يريد شراءه بعدة آلاف من الدولارات .. كل ذلك وهو لا يدرى .. لهذا كان شجاعاً جدا }.

–  أوقف أبو المقداد تاكسى ثالث وركب فيه ليأخذه إلى مضافة للعرب لم تكن بعيدة كثيراً. قاد السائق الجديد سيارته بسرعة ونظر إلى أبو المقداد وسأله بتوتر شديد :

ــ هل أنت عربى؟.

فأجابه أبو المقداد بدهشة :

ــ نعم أنا عربى .

فاندفع السائق قائلا :

 ماذا تفعل هنا؟ إن جميع العرب والطالبان قد غادروا كابل ليلاً ، ولم يتبق غيرك فى المدينة . فأخرج منها قبل أن يقتلك الشماليون الذين سيطروا على كابل . إنى لك من الناصحين. لقد قُتِلَ العديد من العرب والباكستانيين وجثثهم الآن فى الشوارع وأمام بيوتهم .

بُهِتَ أبو المقداد ولم يصدق. وقال للرجل:

ــ خذنى حالاً إلى مضافة العرب القريبة.

–  وقف التاكسى عند مدخل الشارع الضيق الطويل الذى تقع المضافة فى منتصفه تقريباً. فشاهد تجمعاً كبيراً أمام باب المضافة، ومسلحون شماليون وأهالى وأطفال فى إزدحام شديد فتوجس خيفة .

–  من بين الزحام شاهده أحد الأشخاص وكان يعرفه، فتقدم مهرولاً وأمسك بزراعه وسحبه نحو التاكسى. وهمس له بخوف:

ــ ماذا تفعل هنا ؟ لقد أخذ الشماليون كابل. لم يعد هناك طالبان ولا عرب. ذهب الجميع إلى (لوجر) . خذ هذا التاكسى ليوصلك إلى هناك،إن السائق من البشتون وهوأيضا فى خطر وقد يقتله الشماليون. إرحلا من هنا فوراً.

–  ركب أبو المقداد إلى جانب السائق الذى إنطلق بسرعة الريح بعيداً عن المكان. وأصَرَّ عليه أبو المقداد أن يأخذه إلى مضافة أخرى للعرب تقع فى الطرف الآخر للمدينة، حتى يتأكد من صحة الأخبار .

رجاه السائق ألا يفعل لأن دوريات الشماليين سوف تملأ المدينة فى الحال، وأنهما سوف يُقتلان معاً.

أصر أبو المقداد على رأيه، فأنصاع السائق وسار فى الشوارع بسرعة جنونية حتى وصل الى المكان المطلوب .

نزل أبو المقداد من السيارة أمام البيت. وما أن تقدم خطوات قليلة إلى الأمام حتى قطع عليه الطريق رجل كان يعرفه ، قائلاً وقد إمتقع لونه :

ــ ماذا تفعل هنا ؟ لقد خرج جميع العرب وإنسحب طالبان من كابل وسيقتلك الشماليون فوراً إذا رأوك. أخرج بسرعة وأذهب إلى (لوجر) إنى لك من الناصحين.

–  أدرك أبو المقداد ان الأمر جَدِّي، وأن الخطب جَلَل، وأن الموت أقرب اليه مما يتخيل .

فرمى نفسه فى المقعد الأمامى إلى جوار السائق وطلب منه التوجه بسرعة إلى (لوجر) .

–  كانت الدوريات المسلحة لتحالف الشمال قد بدأت تنتشر فى الشوارع والميادين بحثاً عن العرب والأجانب. فقد نثرت الطائرات الأمريكية منشورات تحدد أسعار الأسرى من العرب والأوزبك والباكستانيين، وكان الدفع بالدولار الامريكى وفورا. كان العرب فى الصداره بسعر عدة آلاف من الدولارات عن كل رأس ، ويليهم الأوزبك ثم الباكسانيون. فكان البحث عن هؤلاء وحشياً ودقيقاً .

–  فى الطريق أثناء الهروب شرح سائق التاكسى لراكبه العربى أن سائقى التاكسيات الذين كانوا يتعاركون عليه فى الصباح كانوا يعلمون بأمر الجائزة وأسعار الرؤوس، فكانوا يتسابقون على تسليمه للأمريكيين.

–  ظل السائق يتفادى دوريات الشماليين أثناء هروبه، ويحاول تجنب الميادين والطرق الرئيسية ما أمكنه ذلك .

وأخيراً وصل إلى مخرج مدينة كابل من جهة محافظة (لوجر) حيث موقف رئيسي للباصات والتاكسيات.

كانت هناك أعداد كبيرة من المسلحين الشماليين يفتشون عن العرب والطالبان والأجانب، ويتفحصون كل شئ بدقة وخشونة.

–  لاحَظَتْ أحد الدوريات سيارة التاكسى وأشارت إليها بالتوقف. وبالتأكيد لفت نظرهم الهيكل الضخم لأبى المقداد، ولحيته العظيمة، وعمامته السوداء.

أدرك السائق أن حياته نفسها على المَحَك. وأنه سوف يقنل هنا لو أطاع الأمر. فضغط على دواسة البنزين وأنطلق بأقصى سرعة، والشماليون يتناثرون حول السيارة ويطلقون عليه أفظع السباب وهم يجهزون بنادقهم للإستخدام. ثم حُجِبَت السماء بشبكة من طلقات الرصاص ، طال بعضها جسم التاكسى الهارب. وسادت الفوضى فى موقف السيارات المزدحم بالناس والسيارات . فكان ذلك سبباً فى عرقلة الشماليين ومنع مطاردتهم للسيارة الهاربة .

–  قال عرب ممن كانوا فى(لوجر) عند وصول أبو المقداد أنه وصل سليماً معافى وكذلك رفيقه سائق التاكسى .

وكان أبو المقداد هو الفارس العربى الأخير الذى إنسحب من كابل بعد سقوطها فى أيدى تحالف الشمال المدعوم بالقوات  الأمريكية .

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )

www.mafa.world