ذات يوم (1)
(1991) عقد قرآن سيف العدل
أفراح عرب “قاعدة الجهاد” فى قاعدة جــــاور
قاعدة جاور من الأسماء الهامة التى إرتبطت بمسيرة الجهاد فى أفغانستان . فهى مصدر إعتزاز لمجاهدى باكتيا بشكل خاص . وكان إنشاؤها إعلانا عن تطور جوهرى للعمل العسكرى فى ولاية باكتيا.
فشلت الحملات السوفيتية على جاور، عامي 86و 85 فى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء . ولكن المجاهدون تكبدوا خسائر عالية جدا فى معركة 1986 لإعتمادهم على أسلوب الدفاع الثابت عن جاور واستخدام السوفييت ضدهم أحدث الطائرات وبكثافة عالية للغاية ، فأحيانا كان الفاصل بين الغارة والأخرى يقاس بالثوانى وليس بالدقائق.
– وفى عام 1988 عادت جاور للظهور، بإستشهاد أثنى عشر مجاهدا عربيا وأفغانيا فى حادث إنفجار قنبلة من مخلفات معركة 1986ـ وكان من هؤلاء ثمانية من الشباب العرب من بينهم إبنى خالد “14عاما”، وكان فى أول دَوْرَة تدريبية له مع الشباب العرب.
– حقانى فَقَدَ فى معركة جاور الأخيرة مجموعة من أفضل وأقرب مجاهديه وأبناء عمومته، ضمن عشرات الشهداء الآخرين ومئات الجرحى والمعاقين.
[ بلغ عدد شهداء جاور فى معركة عام 1986 حوالى مئة شهيد، مساويا تقريبا لعدد الشهداء فى معركة فتح خوست عام 1991 .ومن ناحية زمنية إستغرقت معركة جاور تلك حوالى 28 يوما متواصلة ، أى ما يعادل تقريباً ضعف ما إستغرقته معركة فتح خوست].
لذا إرتبطت جاور بالأحزان بالنسبة للكثيرين ، إلى جانب الفخر والإعتزار بالإنتصارات التى تحققت مباشرة فى جاور ، أو إرتكزت على جاور كقاعدة غاية الفعالية فى معارك باكتيا عموما.
لذا عندما حان وقت عقد قرآن إبنتى الكبرى (أسماء) قررت أن يكون فى جاور وليس فى أى مكان آخر.
كان القرار غريبا جدا بالنسبة للعرب من إخواننا فى بشاور ، لكنهم تفهموه ورحبوا به. أما مولوى حقانى فقد تأثر بحزن عميق ورحب بالفكرة .
ومولوى “بخترجان” وهو واحد من أفضل علماء باكتيا الشباب المجاهدين ، دمعت عيناه عندما سمع بالأمر ومنع نفسه ، بإرادة قوية، من الإسترسال فى البكاء . فأحداث جاور كلها تستدعى البكاء ، سواء السعيد منها أو الحزين . إما إعترافاَ بفضل الله فى الإنتصار أو تسليما بقضاء الله فى فراق عزيز .
تعرفت على العريس “سيف العدل” أثناء عمليتنا (مشروع المطار90) ــ إغلاق مطار خوست القديم ــ وكان قد إنضم حديثا إلى تنظيم القاعدة .. كان يتمتع بالذكاء ((ولكن ليس إلى الدرجة التى تمنعه من الإنضمام إلى تنظيم القاعدة )) ـ وكان أيضا يتمتع بالحيوية (التى أهلته لاحقا ليكون على رأس قائمة المطلوبين أمريكيا ومن أغلاهم ثمنا ) .
ربطتنا صداقة قوية . ولكن الصداقة شيئ والعمل شيئ آخر . فقد كان “سيف” من أنصار إستقلال القاعدة فى مشاريعها عن الآخرين ـ وبالتالى عدم تقديمها الدعم لأى مشروع خارج عن نطاق إدارتها الخاصة. و كان فى ذلك قريباً جداً من موقف أسامة بن لادن.
وبالتالى كان سيف معارضا من الداخل ضد مساندة القاعدة للمشاريع التى طلبت عونهم فيها. لكنه لم يكن معارضا للمشاريع نفسها من حيث المبدأ .
ولكونى أتمتع بمساندة أدبية قوية داخل القاعدة متمثلة فى صداقاتى التاريخية مع أبوحفص وأبوعبيدة، الشخصيتان الأهم فى القاعدة ومؤسساها الحقيقيان، لذا لم يستطيع “سيف” منع كل الدعم ، ولكن أبقاه عند الحد الأدنى . ومع ذلك كان دعماً ضرورياً للبدء فى المشاريع التى تقدمت بها.
فى الثالثة عصرا، من يوم الجمعة (6 ديسمبر1991) تحرك موكب مهيب من أمام منزل حقانى فى ميرانشاة، صوب جاور من أجل عقد القرآن . تكوَّن الموكب من أربعة سيارات لمجاهدى حقانى وخمسة أخرى للمجاهدين العرب. غير سيارات للحراسة ومراقبة الطريق إلى جاور.
فى وسط الموكب سيارة تحمل النساء يقودها السائق “مجيد” صديقنا التاريخى منذ عملياتنا فى بارى عام 1985 ، وإلى جانبه “نصير الدين” ، الإبن الأكبر لحقانى. وباقى السيارات مليئة بالمسلحين .
النساء فى السيارة إنتبهن إلى فتيات صغيرات يخرجن من تحت المقاعد ضاحكات بعد أن تسللن بدون أخذ الإذن من الأم الكبيرة “الجدة”. وكأن الصغيرات فهمن أن المناسبة السعيدة تسمح لهن بالإفلات من قوانين الأم الكبيرة وعصا عقوبتها .
كانت المشاعر مرهفة للغاية، لأن الموقف كله عاطفي. فهذا أول عقد قرآن فوق ساحة جهاد غمرتها الدماء والأشلاء، بالمعنى الحرفى للكلمة .
حراس البوابة على مدخل جاور كان يغمرهم الفخر والمرح. فَهُم يعلمون بالحدث التاريخى الذى سيضاف اليوم إلى سجل قاعدتهم العتيدة .
بوابة قاعدة جاور التاريخية كانت عبارة عن حبل مشدود بين زعنفتين ضخمتين من بقايا قنابل الطائرات ـ وقد تحولت كل منهما إلى مزهرية للورود الملونة الجميلة . فلدى الأفغان محبة خاصة للأزهار، يزرعونها فى أى مكان يمكنهم رعايتها فيه، حتى فى مراكزهم القتالية . ويحملونها حتى ضمن أسمائهم.
تعمَّد الحراس الإبطاء فى فتح البوابة على سبيل المزاح ، ثم تجمعوا على سيارة حقانى يشترطون عليه جائزة خاصة لهم .
أما عند الخروج فقد إمتنعوا عن فتح البوابة حتى قدم لهم العريس (سيف العدل) وكذلك مولوى حقانى، كل الترضيات اللازمة. وصلنا إلى الجزء الأخير من جاور ، وهو مكون من مجموعة المغارات الرئيسية. توقف الموكب أمام المغارة التى إستشهد أمامها خالد وإخوانه.
دخلت النساء للإستراحة داخل المغارة التى كان يعيش فيها إبنى خالد وإخوانة المتدربين الشهداء. فكانت لحظات مشحونة بالمشاعر الجياشة، خاصة بالنسبة لزوجتى وإبنتى وهما تتنفسان داخل آخر الأماكن التى شهدت “خالد” حياً ، وقد كان يمثل لهما الكثير جدا من مشاعر المحبة، كإبن وأخ ، ملئ بالحيوية والمرح مع قوة جسمانية، وعطف على كل الكائنات الحية ، فأحبه كل من عرفه من مخلوقات الله.
نزلنا من السيارات كى نتحدث فى نفس مكان الإنفجار. وحقانى يشير لنا إلى مواضع الأحداث الماضية، وإلى المغارات التى تهدمت على من كان فيها من ضيوف . وذكر أسماء بعض الشهداء ـ ومن بينهم إبن عمه الذى مالبث أن لحق به شهيداً أحد إبنيه الذى جاء للبحث عنه ـ ومواضع شهادتهم . وأشار حقانى إلى مكان إصابته بقنبلة نابالم حيث أغمى عليه، إلى أن سحبه حارسه الشاب “علي جان” من وسط النيران.
دخلنا جميعا فى مسجد صغير أقيم حديثا فى ذات المكان حيث إستشهد خالد و إخوانه. وبدأت مراسم عقد القرآن.
مولوى “بختر جان” بدأ بتلاوة شيئ من القرآن الكريم . وفى صدارة المكان جلس مولوى حقانى، وجلست مع سيف العدل إلى يمينه، ومولوى بختر جان إلى يساره.
شاهِدا العقد كانا مولوى حقانى وأبو زيد التونسى( أبو العطاء رحمه الله) وكان “المأذون” هو مولوى “بخترجان” . فتولى أحد الشباب العرب تلقينه صيغة العقد. ليس لأن الرجل لا يعرفها ولكن لأن سلفيو العرب لا يثقون فيما يعرفه العلماء الأفغان (!!).
بعد العقد ألقى مولوى حقانى كلمة قصيرة حول الجهاد ودوره فى حياة المسلم وكونه محور حياته كلها فى راحته وعمله وزواجه وقتاله .
شرع الشباب خارج المسجد فى إطلاق النار فى الهواء ، فصاح حقانى ضاحكا : “وفروا هذا لمعركة جرديز” .[ لم نكن ندرى وقتها أن خمسة أشهر فقط هى كل ما يفصلنا عن موعد فتح جرديز وكابل ، ومن ثم سقوط النظام الشيوعى كله].
صلينا المغرب فى المسجد الرئيسى قرب بوابة جاور, كان الإمام هو مولوى” بخترجان”. وفى طريق العودة جلست إلى جانب مولوى حقانى نتحدث فى موضوعات الساعة. فكلمته عن ضرورة تشكيل حكومة مجاهدين داخل أفغانستان تتولى تقرير الأمور قبل أن تتولاها أمريكا وعصابتها وأممها المتحدة . ثم مشكلة التمويل التى أخذت تتفاقم ، وإقتراحات للخروج منها . فقال أنه سيفكر فى تلك المقترحات .
فى يوم السبت غادر الجميع “ميرانشاه” متوجهين إلى بشاور. سافر”سيف العدل” وجماعته. وسافر أبوعبد الرحمن الكندى وجماعة لوجر من القادة الشباب الميدانيين. بعد أن إتفقت معه على أن نلتقى فى بشاور مع أبوعبيدة وأبوحفص من جماعة القاعدة
أبوعبيدة وأبوحفص كلاهما أصيب فى معركة جاور عام 1986 ـ أى قبل تأسيس القاعدة بأكثر من عام . وبينما شُفىَّ أبو عبيدة من إصابته، ظل أبوحفص يحمل بين ثنايا عموده الفقرى شظية صغيرة تعذَّر على الأطباء إزالتها ، فأقعدته تقريبا عن الحركة أثناء الغزو الأمريكى لأفغانستان ، حتى إستشهد رحمه الله فى غارة أمريكية على مقره فى قندهار.
أبوعبيدة وأبوحفص أصييب كلاهما على مدفع “زيكوياك” مضاد للطائرات كان فوق قمة الجبل الشاهق الملئ بالأشجار المتوسطة الطول المشهورة فى خوست . والقمة كانت مواجهة للهضبة التى تضم سلسلة مغارات جاور . كنت أتصور صديقاى البطلان ، يطلان على حفل عقد القرآن من فوق ذلك الجبل الشامخ. كما رَنَّت فى أذنى ضحكات صديقى الشهيد عبد الرحمن المصرى- وهو يقابل أشد الأخطار بسخرية ومرح. كنا معاً فى أحد هذه المغارات أثناء المعركة الكبرى، نخطط لنشارك فيها، ليس من جاور نفسها .. ولكن من “بارى” قرب مطار المدينة. كان عبد الرحمن يجيبنى قائلا بأحد أشعاره المحببة إليه: ( يَحِنُّ إلى أرض المطار فؤادى).وأظن أن أرض المطار وأرض خوست لم تفتقد أحدا فى ذلك الوقت بقدر ما إفتقدت عبد الرحمن بشجاعته المجنونة ومرحه الإسكندرانى . ولا أظننى إفتقدت أحداً ساعة أفراح عقد القرآن ــ وإلى الآن ــ قدر إفتقادى لصديقى الشهيد عبد الرحمن المصرى.
بقلم :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )