جلال الدين حقانى .. العالم الفقية .. والمجاهد المجدد 37

0

بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري

مجلة الصمود الإسلامية | السنة السادسة عشرة – العدد 189 | ربيع الأول 1443 ھ – أكتوبر 2021 م  .     

28-10-2021

 

حقانى : العالم الفقيه والمجاهد المجدد. (37)

– خلال العملية اتصل بي حقاني مرتين. المرة الأولى بعد يوم من نكسة الهجوم الفاشل من جهة تورغار. وكان يَطْمَئن على الوضع من جهتنا.

– في الاتصال الثاني سألني حقاني: ” لماذا لم تتقدموا إلى الأمام، فجميع الوحدات قد تقدمت”. كان السؤال في وقت انتصار، يقاس فيه النجاح بمقدار التقدم على الأرض.

– علاقة حقاني مع السلطات الباكستانية كانت في أسوأ حالاتها . وذكرنا حالة الجفاء بينه وبين الجنرال “أسد دوراني”رئيس جهاز الاستخبارات ISI.

– قال الجنرال “صلح أمل” إن الرئيس نجيب الله أرسله إلى خوست لمحاولة إنقاذ الوضع. ولكنه بعد أن شاهد ما يحدث أدرك أنه لا أمل. وأثنى على كفاءة حقاني كقائد عسكري متمكن .

– من المفارقات أنه عندما تدنى مخزون الذخائر لدينا إلى حد الخطورة تزايدت نسبة إصاباتنا لطائرات العدو . وكان ذلك من التوفيق الإلهي الذي يصعب تفسيره ماديًا .

– أحد الصواريخ الضخمة التي تحمل الصواريخ الثانوية للعنقودي سقط قريبًا جدًا من الراجمة،  كان جبلًا صغيرًا من الفولاذ . أبو خبيب كان قريبًا من الحادث ونجا منه بأعجوبة . فكان يضحك ويقول إنه سيبيع ذلك “الشيء” ويشتري بثمنه حلوى لأفراد الراجمة.

 

تحميل مجلة الصمود عدد 189 : اضغط هنا

 

حورات مع القمم العسكرية لنظام كابل.

انتهى عملنا ضد المطار الجديد مع فتح مدينة خوست. فحاولت طائرة للعدو أن تهرب في الصباح. لكن تم إيقافها برماية الراجمات والمدفعية . وهكذا تم أسر جنرال طيار كان يقود الطائرة ، وأسر الجنرال “صلح أمل” المستشار العسكري لرئيس الجمهورية.

–  بعد الفتح أجريت على انفراد أحاديث مطولة مع الجنرالين الأسيرين. مع الأول ـ جنرال طيار ـ كانت حول وضع سلاح الجو ، وعمليات إغلاق المطارين القديم والجديد . كان من أهم ما علمته منه أن السوفييت طالبوا حكومة كابول عدم التخلي عن المطار القديم مهما كان الثمن، وعرضوا تعويض خسائرها من الطائرات بشكل فوري بطائرات جديدة من أحدث طراز. ثم أعطاني أرقام خسائرهم في الطائرات فكانت مطابقة لما لدينا من أرقام بالنسبة للطائرات التي أحرقت على المدرج وهي(14طائرة) ـ أما التالفة بشكل دائم فقال إنها عشر طائرات تمكنت من الطيران إلى كابول للإصلاح . ولكنها ما زالت رابضة هناك لأن إصاباتها كانت عسيرة الإصلاح وبهذا تكون نتائج العملية هي تدمير وإتلاف 24 طائرة نقل عسكرية، وهو رقم كبير جدًا بمعايير وقتنا ذاك .(استغرقت العملية 28 ليلة).

سألته عن السر وراء شجاعة الطيارين وهبوطهم في المطار رغم القصف الشديد وتعرضهم للإصابة فقال ” إنهم يتوكلون على الله !!” . ضحكت وسألته إن كانوا يتعاطون خمورا أو مخدرات فنفى ذلك وقال أنه ممنوع حسب القوانين ، ولكننا ندفع لهم مكافئات كبيرة خاصة في مهامتهم في خوست. ثم سألته كيف يتم تكليف جنرال مثله في مهمة خطيرة كهذه ؟ أليس هناك طيارون شباب ؟ لم أظفر منه بإجابة شافية. ولكني استنتجت أن خطورة المهمة لم تجد أحد ينفذها سوى صاحب هذه الرتبة الكبيرة . خاصة وأن المهمة هي، على ما يظهر، كانت إنقاذ عدد كبير من الجنرالات الكبار في الجيش والاستخبارت من الوقوع في الأسر .

لقد نجا عدد من هؤلاء وسقط آخرون في الأسر .

 

تحميل مجلة الصمود عدد 189 : اضغط هنا

 

“صلح أمل”الجنرال المستشار :

أما الجنرال “صلح أمل” فكان أكثر عمقًا في إدراكه للأمور. بدأ مهتزاً قليلا ثم تمالك نفسه وحافظ على ابتسامته الدائمة طوال حديثه معنا . كان من القوات الخاصة ، ودرس في كلية أركان حرب في مصر لفترة، وزار “خط بارليف” على قناة السويس.

كان يعمل مستشارًا عسكريًا لرئيس الجمهورية ـ وفي ظني أنه منصب شرفي الهدف منه إبعاد شخص ما عن الاحتكاك المباشر بالجيش نتجة الشك في توجهاته السياسية، فيتم ترقيته شكليا وإضعافه عمليا، فيما يطلق عليه في دول العالم الثالث “ركلة إلى أعلى “. لم أسأله عن ذلك لكن سألته عن سبب قدومه إلى خوست في ذلك الوقت المتأخر بعد أن وصل الوضع إلى درجة ميئوس منها . فقال أن الرئيس نجيب الله أرسله إلى خوست لمحاولة إنقاذ الوضع بأي طريقة. ولكنه بعد أن وصل وشاهد ما يحدث أدرك أنه لا أمل. ثم شرح لي كيف دارت العمليات من طرفهم ” الجيش الحكومي” ، وأثنى على كفاءة حقانى كقائد عسكري متمكن، وأبدى إعجابه به ــ { وبالفعل فقد تعاون مع حقاني في عمليات جرديز التي حدثت في الخريف من نفس العام وكان يعرف كل الضباط الكبار هناك وفي كابول، ودعاهم إلى الاستسلام لأن الحرب قد حسمت نتائجها بسقوط خوست.

 وبعد فتح جرديز ” في إبريل 1992″ كنت أراه يسير مع حقاني وسط مساعديه وهو مسلح برشاش خفيف أهداه له حقاني}.

سألت الجنرال “صلح أمل ” عن استنتاجاته من حرب أفغانستان. فقال بأن تلك الحرب أثبتت أن “العنصر الاجتماعى” في الحرب أكثر أهمية من كل العناصر الأخرى الاستراتيجية والاقتصادية. من جانبي فهمت أنه يقصد، موقف الشعب، والعنصر البشري الذى يتضمن الجوانب المعنوية مثل الإيمان والتصميم والشجاعة. لذا وافقت على ملاحظته وأعجبت بها.

 

عـودة الحـمار الضـال

قوة الدعاء فعالة ضد كل ما يعجز الإنسان عن مواجهته أو التعامل معه . ليس فقط الطائرات والصواريخ ونيران العدو ، بل أيضا ضد كائنات يصعب التفاهم معها، كما حدث لي مرة مع حمار المجموعة وكلاب البدو عندما تحالفوا ضدي.

بدأت القصة فى الصباح الباكر ليوم الأثنين الأول من رمضان ( 17مارس) والأول لبداية العمليات. فقد تأكد حاجى إبراهيم عبر متابعاته اللاسلكية أن العمليات قد بدأت في ماليزي وأن المجاهدين استولوا على سلسلة الجبال المعادية المواجهة لهم هناك .

كان السحاب منطبقا على الأرض والمطر ينزل متهاديا ثم بدأ يزداد . كنت قلقا بشكل خاص على مجموعة راجمة أبوهمام (قريبة جدا من مواقع العدو فوق جبل كوكاراك) ، فالاتصال بهم سيصبح صعبًا بسبب نزول الأمطار  وتحول الأرض الزارعية المهجورة فيما بيننا وبينهم إلى برك من الطين المتحرك القادر على ابتلاع السيارة حتى منتصفها أحيانًا. فإذا أضيف إلى ذلك الغارات الجوية المتوقع زيادتها أثناء العمليات  ناهيك عن دبابة ومدفعية جبل كوكاراك الذي يكشف جزءاً لا بأس به من الطريق المتجه نحو موقع الراجمة، كل ذلك قد يعزل الراجمة وطاقمها ثم يوقفهم عن العمل وربما تعرضوا إلى تسلل أراضي من العدو قد يؤدي إلى أسرهم خاصة وهم على خط التماس الأول لمنطقة “المجاهدين”.

 ــ باستخدام سيارتنا بدأت مجموعة بقيادة الشاب المقدام “أبوطارق التونسي” في تزويد مجموعة أبوهمام بأكبر قدر من الذخائر والأطعمة على قدر احتمال مغارتهم الصغيرة.

  ــ  مجموعة ثانية كان عليها مساعدة طاقم “الجماعة الإسلامية” في نقل ذخائر ومهمات أخرى من مغارة التموين القريبة إلى موقع الراجمة.

وعند فراغ أبوطارق من مهمته ينتقلون معه لنقل مهمات من مركزنا الرئيسي على نهر شمل أي مركز”النصف نعل” إلى مغارتنا القريبة . كان لدينا حماران صغيران يعملان ضمن “سلاح النقليات”. أحدهما ذهب مع جماعة الإمداد والتموين والآخر بقي معنا لتزويد مغارة الترصد المعلقة بالمياه. وكانت تلك هى مهمتي لذلك اليوم إذ لم يتبق غيري فوق الجبل، وحتى بندقيتى أخذوها نظراً للعجز الكبير في التسليح الفردي للمجموعة. ولما كنت مزودا ” بمطواة قرن غزال”  فقد كانت تكفيني في ظروف المعارك الكبيرة ، فتنازلت عن بندقيتي لأحد الشباب الجدد.

  نزلت إلى الوادي مع حماري وملأت صفيحتى الماء وربطتهما على ظهر الحمار، واستدرت عائدًا. كان الوادى خاليا والمطر يتزايد . مضارب البدو بدت كأنها مهجورة، وقد جمعوا الماشية والأغنام في ساحة واسعة لها سور منخفض من الأحجار. كانت أصوات الانفجارات تأتي خافته من جهة ماليزي. حاولت الإسراع بحماري صوب مغارتنا المعلقة لمتابعة ما يحدث. لكن الحمار كان له رأي آخر، لقد رمى الحمولة وسار منفردًا. أوقفته وأعدت تحميله، ولكنه مرة أخرى رمى الحمولة وفر هاربا. عدوت خلفه حتى فناء أغنام البدو. اندفع الحمار داخل الفناء وتوقف بين الأغنام . سادت الفوضى وصاحت الأغنام وهي تجري في كل اتجاه. إنتَبَهَت كلاب الحراسة إلى أن حدثا جللا يجري، وبدون أي تدقيق فى الأمر اعتبروني المسئول عما يحدث للقطيع. كنت واقفا على باب الفناء، فتقدم كلبان نحوي ينبحان بغضب  كاشفان عن أسنان لامعة تبرق مثل الخناجر المسنونة.

أضطررت إلى “التقهقر التكتيكى”. فواصلا الضغط حتى أوصلاني إلى مسافة آمنة بعيدًا عن الباب . كان كل منهما في حجم حمارنا أو أكبر قليلا .جلست بيأس على كومة من الأحجار أفكر فيما ينبغي عمله. والكلبان واقفان ينبحان بغضب وتصميم على بوابة الساحة .

المطر يتزايد وكذلك أصوات الإنفجارات ، والوادي من حولي خال تمامًا من البشر. لا أستطيع المكوث هنا طويلًا ، ولا أستطيع العودة بلا ماء ولا أستطيع ترك الحمار هنا فقد لا نراه مرة أخرى .. فما العمل ؟. قررت أن أدعو “دعاء الضالة”. دعوت وجلست أنتظر الفرج، وما هي إلا دقائق حتى تحققت المعجزة.

خرج الحمار من ساحة الأغنام وتقدم نحوي مطأطئ الرأس كالمعتذر، والكلبان ينبحان خلفه وكأنهم يقولان له : “ارجع يا مجنون”. لكنه لم يرجع ووقف أمامي منكسراً.

لم أصدق ما يحدث أمامي. فلم أوجه للحمار العائد أي لوم ، وسحبته بهدوء إلى أوعية الماء فحملها مشكورا حتى أسفل جبلنا. ثم أخذت منه الأوعية وأكملت بها الصعود إلى المغارة في قمة الجبل .

 

مصاعب العملية

–  ذكرت أن إنجازنا في عملية “المطار الجديد ” كان إحراق ست طائرات نقل عسكرية على مدرج المطار، وأسر طائرة نقل عسكرية يقودها جنرال طيار .

كنت أشعر أن الإنجاز كان أقل كثيرًا من المطلوب وقد ذكرنا الأسباب في موضع سابق وهي:

ـ قلة الذخائر إلى درجة كبيرة .

ـ قلة عدد الراجمات .

ـ مواضع الراجمات لم تكن مثالية بالنسبة لمدرج المطار . ولكننا أجبرنا عليها بحكم الظروف .

ـ اضطرارنا لتقديم دعم بالنيران لعمليات أرضية ليست ضمن برنامجنا . كما حدث في ماليزي مع البدو وكما حدث مرتين حينما وقعت مجموعات “للمجاهدين”  تحتوي عربًا فيما يشبه الكمين وكانوا إلى الشمال من مواقعنا ـ وسنذكر ذلك لاحقا. وشكل ذلك عبئا على ذخائرنا القليلة جدا.

وكما ذكرنا فإن إمدادنا بالذخائر كان صعبًا بالنسبة لظروف الفيضانات في نهر شمل وبالنسبة لأن “القاعدة” قد توقفت تقريبًا عن إمدادنا بالذخائر. كما أن حقاني أمدنا بصعوبة بعدة مئات من الصواريخ تعرض الكثير منها إلى “المصادرة” على يد “إبراهيم” شقيق حقاني، الذي صادفها في الطريق فقرر أخذها لكونه في أشد الحاجة إليها وكانت ثلاثمئة صاروخ ..وهكذا .

ـ أسوأ الأمور كان ضعف المعلومات، لاعتمادنا على أنفسنا من نقطة الترصد الوحيدة لدينا.  وكان العدو يشوش دومًا على أصوات الطائرة باستخدام طائراته في الجو أثناء عملية الهبوط ـ وبالنسبة للرؤية فكانت مستحيلة في الأوقات المظلمة من الليل ـ وغياب التصنت اللاسلكي أثر كثيرًا على كمية المعلومات الموثوقة لدينا.

–  بدأ اشتراكنا الفعلي في العمل ضد المطار في ليلة اليوم الثالث للمعارك.

في تلك الليلة والتي تليها لم نحقق أي إصابة واضحة رغم أننا ضربنا بكثافة لم نكررها فيما بعد نتيجة قلة الذخائر. كنا نقاتل مغمضي الأعين نتيجة ضعف المعلومات، فبدأت تظهر الخلافات داخل مجموعتنا للترصد وإدارة النيران .المكونة مني ومن أبوكنعان وحاجي إبراهيم . ولم يكن ذلك مألوفا لدينا بالمرة .

لكن في اليوم الخامس للمعارك انفجرت أول طائرات العدو ، فعادت الأمور داخل مجموعتنا إلى مجراها الطبيعي، وارتفعت المعنويات وعادت الثقة بالنفس.

 

دجاج على أسنة الرماح

حاجي إبراهيم كان يمارس عمله على أفضل صورة فكان دائم الاتصال لاسلكيًا مع مجموعات المجاهدين، سواء على قطع المدفعية أو في العمليات الأرضية أو البدو أو إخواننا من العرب في جماعة أبو الحارث.

لذا كان لدينا فكرة جيدة عما يدور حولنا على كافة محاور العمليات. فكنت يوميًا أنزل من مغارتنا “القريبة من قمة جبل الترصد” إلى الأسفل كي أطوف بمراكزنا القريبة، وأولها مغارة رئيسية للمبيت ولتخزين المهمات، وفيها شباب الإداريات والحراسات، ثم هناك راجمة “الجماعة الاسلامية” . فكنت أنقل إليهم أخبار العمليات الأرضية ونتائج اشتباكاتنا الليلية، وتكتيكات العدو فيها والتغييرات الجديدة التي سنجريها على عملنا طبقا لتطورات عمل العدو، وأزمة الذخائر المزمنة لدينا.

كنت أزور الراجمة الأخرى التي يديرها “أبوهمام” فكانت الرحلة إليها لطيفة جدا إذ كانت على الأقدام عبر الجبل وليس رحلة دائرية بالسيارة . كنا نسير على امتداد السلسلة التي عليها الترصد ثم نهبط إلى الوادي خلفها عبر مدق جبلي متعرج من صناعة “مجموعات ” المنطقة .

كان طاقم الراجمة يعيش في منطقة منعزلة يمر بها المجاهدون أحيانا . فكنا نقضي معهم وقتا ريفيا ممتعا مع أكواب الشاي الأسود والخبز اليابس في وجبة ساحرة يعدها دوما ذلك الشاب الملائكي ” أبو خبيب “. كنا نفتش معهم آثار القصف الجوي عليهم في الليلة السابقة، وبعضه كان قريبا وخطيرا. كنا نفحص الشظايا لنرى أنواع القذائف.  بعضها كان جديدا حتى أننا أحصينا عدة أنواع من القذائف العنقودية ظهرت لأول مرة في المعارك .

أحد الصواريخ الضخمة التي تحمل الصواريخ الثانوية للعنقودي سقط قريبًا جدًا من الراجمة . كان جبلا صغيرا من الفولاذ . كان أبو خبيب قريبا من موضع الحادث ونجا منه بأعجوبة . فكان يضحك ويقول أنه سيبيع ذلك “الشييء” ويشتري بثمنه حلوى لأفراد الراجمة .

كان ” أبوخبيب” محقا فقد كان الطعام لدينا فقيرا جدا ، نتيجة عزلتنا وحصارنا بالنهر الهائج . وأيضا لأنه مع اشتداد المعارك وتوسع ساحة المعركة ، يصبح الإمداد عسيراً وقليلاً .

في المرحلة الثانية من المعركة (بعد الوقفة التعبودية) ظهرت غنائم كثيرة جدا فى أيدي سكان المنطقة من الإخوة “المتربصين”، ومن بدو المنطقة الذين تكاثروا تدريجيا، ولم يكونوا من المقاتلين ولكن رعاة عاديين ، وبعضهم احترف تجارة الخردة وصار لهم مخزونا ضخما جدا على حافة منطقتنا بعيدا عن العمليات .

من ضمن ما ظهر في الأيدي كان “الدجاج” . فكانت “الغنائم ” منه كثيرة وليس هناك مشترون فكانت الأسعار رخيصة جدا . فرح شبابنا بذلك وطالبوا بشراء كمية من الدجاج لتحسين الحالة الغذائية المتردية لدينا. قلت لهم أننا لن تشتري دجاجاً مسروقاً ، فهو من الغنائم التي لم تقسم بين المجاهدين فهي إذن غلولاً محرماً .

وقع الشباب في ورطة وحاولوا إيجاد مخرج، فقالوا لي إن البدو عندهم دجاج ليس من الغلول فلنشتر منهم. أخيرًا أذعنت على شرط أن يسألوهم أولا إن كان الدجاج من “الغنائم ” أم هو ملك لهم.

ذهب الشباب إلى مضارب البدو، وعادوا محملين بالدجاج وقالوا وقد غمرتهم البهجة أنهم سألوا البدو فأكدوا أن الدجاج لهم . لم أشأ أن أدقق أكثر من ذلك، فنظرات الشباب إلى الدجاج توحي بأنهم لن يتخلوا عنه إلا على أسنة الرماح . فابتلعت شكوكي، ثم ابتلعت الدجاج معهم بعد ذلك.

–   بالقرب من مركز راجمة أبوهمام، شاهدنا أول قطعة من السلاح الثقيل التي فاز بها “المتربصون” . كانت قطعة رائعة مزجت بين التكنولوجيا السوفيتية “والتحايل الفني” للأفغان.

كانت عربة استطلاع مدرعة ثبتوا فوقها مدفع شلكا مضاد للطائرات . كان التثبيت بدائيا إلى حد ما ولكن الفكرة نفسها رائعة وكنت أتمنى أن نمتلك مثل ذلك السلاح.

ذهبنا لمعاينة المدرعة التي كانت في حراسة فتى في الخامسة عشر مسلح ببندقية كانت مهمته منع أي أحد من مجرد الاقتراب من تلك الغنيمة.

ولكنه شعر بالخجل منا وسمح لنا بالاقتراب والتصوير. صعد أبوكنعان فوق المدرعة والتقطت له عدة صور كانت إحداها غلافاً لمجلة “منبع الجهاد” التابعة لحقاني.

 –  كان العجز الدائم في ذخائرنا من الصواريخ يجعلنا في انشغال مستمر في البحث عن بديل أو سلاح مساعد. وكانت “الشلكا” تراود أحلامنا طول الوقت. ولما وصلت إلينا من الغنائم كان قدرها أن تكون في أيدي الخطافة من “المتربصين” وليست في أيدي المجاهدين.كنا أيضا نبحث عن الدبابات لندفعها في معركة المطار ـ وسنذكر تلك المساعي لاحقا .

–  من المفارقات أنه عندما تدنى مخزون الذخائر لدينا إلى حد الخطورة تزايدت نسبة إصاباتنا في طائرات العدو . وكان ذلك من التوفيق الإلهي الذي يصعب تفسيره ماديا .

بدأنا في استخدام الراجمات كما لو كانت قاذف فردي للصواريخ. أي نطلق بها الصواريخ واحدا واحد، وليس بشكل جماعي كما كنا نفعل في الماضي. وأيضًا بدأنا في استخدام الراجمتين على انفراد وليس مجتمعتين. وأكثر من ذلك نطلب من الراجمة أن تطلق من فوهتها رقم كذا، ولديها بالطبع اثني عشر فوهة .

كان من المفروض أن يكون العدو سعيدًا بهذا الضعف الشديد الذي انتابنا، ولكننى أفترض أن العكس هو الذي حدث . فمن ذا الذي يتصور أننا بهذه الطريقة الواهنة كنا نصيب ومن الطلقة الأولى الطائرة وهي على مدرج المطار المظلم أو الباهت جدا تحت ضوء قمر.

لا يمكن تفسير ذلك ـ ماديًاـ سوى بكون هذه الصواريخ ذكية أو موجهة .

 أما كونها ذكية فذلك غير ممكن لأن الصواريخ لا تمتلك قدرات ذهنية يفتقر إليها أصحابها. أما كونها موجهة .. فمن الذي وجهها ؟؟ .

 

تحميل مجلة الصمود عدد 189 : اضغط هنا

 

“يا خيل الله اركبي”

– عندما اشتدت عندنا أزمة الذخائر، ارتفع في المقابل تحفزنا الروحي والمعنوي.

فكان نداء الاستعداد للرماية هو نداء “ياخيل الله اركبي”، أصدح به في هدأة الليل من فوق جبل الترصد. هذه الجملة البسيطة كانت تثير حماساً عجيبا وحالة روحية غير عادية، ومازالت أذكر صوت “أبوهمام” يأتى على المخابرة مرددا:

” لبيك اللهم وسعديك “. ومن خلف راجمة الجماعة الإسلامية تأتي أصوات التكبير والتهليل .

والمدهش كانت الإستجابة السريعة ومن الطلقة الأولى مع أصوات وأضواء الانفجارات تأتي من فوق مدرج المطار. ليزداد التكبير عندنا خلف الراجمات وفوق جبل الترصد ومن باقي المواقع أينما كانت، حتى من عرب أبو الحارث ومهاجمي الخطوط الأولى.

بدأت راجمة الجماعة الإسلامية ذلك البرنامج ثم أدركتها راجمة أبوهمام في الليلة التالية. وكلتاهما كان مُضَبَّطا على منطقة منتصف المطار حيث كان قلب المطار متمثلا في المباني الإدارية ومنطقة تفريغ الطائرات.

ولما تكدست الطائرات المحترقة في المنتصف على الحافة الشمالية وصلتنا معلومة نادرة من أحد سكان المنطقة كان قريبًا من المطار ليلا، وشاهد العدو قد نقل عملية التفريغ إلى حافة المطار المقابلة لنا. وكانت راجماتنا على استقامة مدرج المطار مع ميل خفيف لكل منهما. ذلك الميل جعل المساحة الممكن الرماية عليها من كل راجمة مساحة ضيقة نسبيا .

بدأنا في النهار إعادة تضبيط الراجمتين على منطقة التفريغ الجديدة . كان لدينا وقتها حوالي ستون قذيفة فقط وهو مايعادل استهلاك إحدى راجماتنا في مشروع المطار القديم في ليلة واحدة، استهلكنا حوالي ستة عشر قذيفة بدون أن نتمكن من مجرد الاقتراب من الموضع الجديد. كانت القذائف طائشة بشكل غير طبيعي.

شعرت بالإحباط الشديد لهذا الفشل. فقد استهلكنا ذخائر نادرة على لا شيء. ويبدو أن الفشل سيكون نصيبنا في اشتباك الليلة إذا استخدم العدو تلك الحافة المواجهة لنا. في النصف الثاني من الليل هبطت طائرة نقل في المطار. كان دليلنا هو الصوت ولم نكن نعلم يقينا أين تقف الطائرة ولكن قدرنا أنها في المكان الذي أخبرونا به على الطرف المقابل لنا من المدرج.

أبوهمام أعلن جهوزيته بشعارة ” لبيك اللهم وسعديك ” بعد أن سمع شعار الاستنفار” ياخيل الله اركبي”. طلبت منه أن يطلق صاروخا تجريبيا بالفوهة رقم خمسة،  ففعل وجلس الجميع في ترقب ودعاء متضرع إلى الله .

كنت أرقب المدرج بالمنظار فشاهدت وميض الألمنيوم المشتعل، لمع في الفضاء ثم اختفى. فتكلمت مع الراجمات أن هناك احتمال إصابة فى المطار .. ولكن علينا الانتظار للتأكد . فزادت الدعوات الضارعة وانتحب البعض . وبعد ثوان دوت الانفجارات التي لم تدع مجالا للشك أن طائرة تحمل ذخائر قد أصيبت. فتعالت التكبيرات وسجد الجميع شكرا لله.

طلب طواقم الراجمتين الصعود على التلال لمشاهدة المنظر بصورة أوضح . ومن هناك ضجوا بالتكبير وواصلوا السجود .

في الصباح كانت المفاجأه مذهلة بالنسبة لنا . فقد وجدنا حطام طائرة محترقة ومبعثرة على الجانب الشمالى لمدرج المطار المواجه لنا . وهذه المنطقة فشلنا في إصابتها في ضحى الأمس أثناء رماياتنا التجريبية حتى أصابنا اليأس. وها نحن نصيبها في الظلام ومن الطلقة الأولى التي شطرت الطائرة نصفين وأحرقتها بما فيها ومن فيها . وقد شاهدناها بعد عدة أيام حين تم فتح المدينة . لم يكن عندي شك أن ذلك العمل قد تم بقوة الدعاء وليس بقوة الصواريخ .

 

حقاني: لمـاذا لا تـتـقدمون ؟

خلال العملية كلها اتصل بي حقاني مرتين .

المرة الأولى بعد يوم من نكسة الهجوم الفاشل من جهة تورغار . كان يطمئن على الوضع من جهتنا . فأخبرته عن شيئين الأول حاجاتنا الشديدة إلى الذخائر . والثاني هو أن خط دفاع العدو المقابل لنا أصبح ضعيفا جدا بعد استسلام جبل كوكاراك وهضبة “أليسار”. ثم ذكرته بوعده تسليمنا دبابة أو اثنين وذلك قبل بدء العمليات وقلت له لو أن عندنا ثلاثة دبابات لاستطعنا الوصول إلى المطار الجديد والسيطرة عليه وإنهاء المشكلة .

عن الموضوع الأول قال إنه سيرسل إلينا في الحال ثلاثمئة صاروخ كاتيوشا.

 (وقد فعل ولكن شقيقه إبراهيم صادرها في الطريق ، ولكن وصلت كميات أخرى فيما بعد . فكان حقاني هو مصدرنا الأساسى بالذخائر وليس القاعدة التي كانت قد وعدت بتحمل تلك المسئولية )

وعن الموضوع الثاني فقال بأنه لن يستطيع إرسال أي دبابات إلينا بعد ما حدث بالأمس ويقصد خسارة دبابتين في الهجوم الفاشل .

شعرت بخيبة أمل من هذا التطور السلبي. فقد كنت مع “ابن عمر” قد بذلنا جهدا كبيرا لعدة أيام في مسح المنطقة شمال وجنوب النهر لاستكشاف إمكانية الاستفادة من الدبابات في عملنا .

كانت الإمكانية رائعة من وجهة نظرنا. وتركيزنا الأساسي كان على المطار الذي لا يحجبنا شيء، تقريبا، عن رؤيته .

وكانت ثقتي كاملة بالشاب اليمني “ابن عمر” ضابط الدبابات السابق في جيش اليمن الجنوبي. كان العدو بالفعل ضعيفا جدا في الجبهة الشرقية ولكننا كنا أشد ضعفاً . فمجموعتنا بالكاد تدير الراجمتين ، وأشد ماكنت أخشاه هو أن تبادر قوة من ميليشيات العدو بمهاحمتنا بينما المنطقة تكاد تكون شبه خالية، وانشغل الجميع بالبحث عن الغنائم في ساحات الوادي، أو يتربصون الدوائر بأي عملية فتح جديدة حتى ينقضوا على ما فيها من غنائم .

كنت أتوقع أنه لو كان لدينا مئة مجاهد فقط تدعمهم دبابتان لتمكنا من الوصول إلى المطار الجديد بسهولة. ولو أن الجبهة الشرقية والجبهة الشمالية شهدتا أي قدر من النشاط الهجومي لانتهت المعركة في أسبوع واحد أو أقل.

– من شدة حماسنا لاستخدام الدبابات، بدأنا بالبحث الحثيث عن من يعطينا دبابة من الغنائم (أوالغلول) على أن نتكفل بكافة مصاريف التشغيل، أو دفع ثمنها كاملا إذا أصيب في العمليات.

أفراد “الكشافة ” لدينا حضروا صباحاً فرحين ، فقد ضبطوا دبابتين وسط الغنائم لدى مجموعة من البدو بالقرب من “باشيم “. واحدة منهما سليمة تماما والثانية معطوبة بشكل يمكن إصلاحه.على الفور أرسلت فريقا متعدد الجنسيات للتفاوض وإبرام صفقة معهم. فذهب حاجي إبراهيم الأفغاني وأبوطارق التونسي وابن عمر اليمني.

كان حاجى إبراهيم مفاوضًا بارعًا ، يكسب قلوب مستمعيه ويستثير عواطفهم الدينية وعقولهم لكن بكل أسف لم يجد ذلك نفعاً مع إخواننا البدو . فتكلم قائدهم بجفاء قائلا له: “إن كلامك منمق وجميل ولا أدرى ماذا تخبئ خلفك . أنزل يدك من على الدبابة ، فبعد قليل قد تدعي أنها لك” . فعادت مجموعاتنا تجر أذيال الخيبة ، وضاع تماما كل أمل لنا فى استخدام دبابات.

– في الاتصال الثاني لحقاني معنا . كان يطمئن على أحوالنا. ثم سألني “لماذا لم تتقدموا إلى الأمام ، فجميع الوحدات قد تقدمت” . كان السؤال وجيهًا خاصة في وقت انتصار يقاس فيه النجاح بمقدار التقدم على الأرض. ولكن الأمر بالنسبة لمجموعتنا لم يكن كذلك . حاولت أن أشرح لحقاني الأمر بإيجاز فقلت له إننا لسنا في حاجة إلى التقدم طالما أن راجماتنا تصل إلى الأماكن التي نريدها . فإذا تحركنا لن نكسب من ذلك شيء يذكر بينما سنفقد مزايا المكان الذي نحن فيه، فهو يوفر لنا حماية لا بأس بها مع غارات الطيران تحديدا . فإذا تقدمنا إلى الأمام ستصبح في مناطق مفتوحة نتعرض فيها لمخاطر مؤكدة من الطيران .

فقال حقاني: هناك من يقول إن قذائفكم لا تصل إلى المطار.

فقلت له: إن قذائفنا تصل إلى الأماكن التي تحقق لنا الهدف المطلوب، وهذا يكفينا لأننا لا نجد أمامنا أماكن أفضل مما نحن فيه الآن.

كلام حقاني كان يشير إلى أن هناك من يطعن في عملنا عنده . وكان يشير أيضا إلى جزء من طبيعة موقفنا . فقد كانت راجماتنا تغطيان نظريا60% من مساحة المدرج المواجه لنا ـ لكوننا على استقامة المدرج تقريبا .

إذن فهناك 40% من المدرج كانت خارج مدى الراجمات . التحرك إلى مجنبات المطار كان مستحيلا . لذا فإن التقدم إلى الأمام لتغطية باقي المدرج كان هو الإمكان الوحيد أمامنا . ولكننا استبعدنا ذلك الاحتمال لخطورته الشديدة بل والمؤكدة .

اكتفينا إذن بتغطية نسبة 60% من مدرج المطار لكون النسبة المتبقية لا تكفي العدو حتى يتم فيها عمليات الهبوط والإقلاع والتفريغ .

لم نكن في موقع متفوق بنفس القدر الذي كنا عليه أثناء عملية المطار القديم (المطار90) ـ ولكننا كنا في أفضل المواقع المتاحه لنا في تلك الظروف، مع نسبة خطر أعلى بكثير مما سبق ، وأكثر مما يقبل به العقلاء في ظروف عادية .

ولو لم تنته المعارك بهذه القدر من النجاح لفزنا بالقدر الأكبر من اللوم والإدانة .

 

تحميل مجلة الصمود عدد 189 : اضغط هنا

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )

www.mafa.world

 

جلال الدين حقانى .. العالم الفقية .. والمجاهد المجدد 37



ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا