جلال الدين حقانى .. العالم الفقية .. والمجاهد المجدد 25

بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري

مجلة الصمود الإسلامية / السنة الخامسة عشر – العدد ( 175) | محرم ١٤٤2ھ – سبتمبر٢٠٢٠م .  

04-09-2020

 

حقاني: العالم الفقيه والمجاهد المجدّد (25)

جبل تورغار: الإعداد للضربة القاضية

– خوست كانت تترنح فعلياً ويترنح تبعًا لذلك مستقبل النظام في كابل ومستقبل المشروع الدولي الأمريكي، في أفغانستان.

– لقد كان حقاني هو المصدر الأساسي لذلك الخطر، لذا كان أمنه الشخصي في خطر. ومنذ أشهر قليلة اُحْبِطَت محاولة لتفجير سيارته، فقد لصق أحدهم بها قنبلة مغناطيسية.

– لم نكن ندري أن حقاني كان  يتعرض وقتها لمحاولة اغتيال جديدة، وأصيبت سيارته.

– كان المنظر مهيبًا، خرج حقاني ومعه أخواه خليل وإبراهيم، وعدد من أبنائه الصغار، وعلى باب البيت وقفت أمه العجوز وهي تمسك بيدها مسبحتها الطويلة وتتمتم بالدعاء وتَجْمَع الأطفال الصغار من بين السيارات وتدفعهم إلى داخل البيت وهي تؤنبهم بشدة،  بينما بعض الأطفال يحاولون التعلق بالسيارات والذهاب مع آبائهم إلى الجبهة.

–  حقاني الذي شجع أمريكا وروسيا علي تثبيت نجيب في الرئاسة هو توقف الجهاد في أكثر مناطق أفغانستان، مع وجود حكومة ضعيفة للمجاهدين في باكستان.

– زوجة جيلاني قالت لإذاعةبي بي سيلقد تعبنا من القتال والدماء، ونريد لشعبنا أن يستريح . والشيوعيون الذين خدموا الشيوعية لمدة عشرين سنة والضباط الذين حصلوا على الرتب  في مقابل قتل المسلمين، كل هؤلاء يقولون عنهم مسلمون طيبون حتى يشاركوا في الحكم القادم للبلاد.

– عندما أقسم حقاني أن يقاتل حكمتيار .

– رد الشيخ حقاني بهدوء وتأثر: الظروف الآن عادت كما كانت في بداية الجهاد، وكما كانت في صدر الإسلام، فتمايزت الصفوف ولم يبق في الجهاد سوى المخلصين.

– هؤلاء الجنود لم يفروا بل قاتلوا بعنف حتى يتركوا مواقعهم . فقتلوا رؤسائهم، كما قتلوا الميليشيات . وقتل من هؤلاء الجنود أربعة أفراد وجرح أربعة آخرون.فسحبوا معهم جثث زملائهم، حتى يدفنوها فى(مقابر المسلمين)باعتبارهم شهداء .

– الصحفي البريطاني يسأل حقاني عن رأيه فيما قاله مولوي (نسيم آخونزاده) القائد القوي في هلمند بأنه سيزرع المخدرات في مناطقه حتى يتمكن من الاستمرار في الجهاد بعد أن توقفت المساعدات الخارجية.

– ركز الصحفي على إمكانات حقاني، وهل تكفي لفتح خوست. وسأل عن استعداده لوقف القتال إذا تمت تسوية بين حكومة بيشاور المؤقتة وحكومة نجيب الشيوعية.

 

تحميل مجلة الصمود عدد 175 : اضغط هنا

 

معلومات من الأسرى:

 عدت ليلاً إلى ميرانشاه مع عثمان وإبراهيم وأبو الحارث، وزكي وهو مجاهد باكسـتاني تخصص في تصوير المعارك وعاني في نهايات الحرب من شظية أصابت رأسه.

كان في مضافة حقاني عدد كبير من كومندانات المعارك كان الجميع يستمعون إلي إذاعة خوست التي أقامت مهرجان لما أسمته الانتصار الكبير في تورغار. وكان غريباً أن تذكر إذاعة خوست صديقي عبد الرحمن وتتباهى بأنهم قتلوه منذ سنتين فوق تورغار ووصفوه بأنه كان خبيراً مصرياً في الأسلحة.

 ولكن ماذا قال لنا الجنود الأربعة الذين التحقوا بالمجاهدين وقت معركه تورغار؟ .

كان الحديث معهم مفيدًا لكون معنوياتهم مرتفعة فرحاً بنجاح عمليه الفرار، والشيء المشترك لأمثال هؤلاء ممن قابلناهم في تلك المرحلة وحتى نهاية الحرب هو المعنويات المرتفعة والحماس للجهاد حتى أن ذلك الحماس انتقل إلى المجاهدين أنفسهم، فقد كانوا يبشرون بقرب انهيار الجيش.

كان الأسرى يعملون في معسكر تدريبي ملحق باللواء الثاني الحدودي وهم: “إمام مالي”، و”محمد دين”  من بدخشان، ثم “غلام سخي” من مزار شريف و”محمد هاشم” من ميمنة عاصمة فارياب. وصلوا جميعاً إلى خوست منذ شهرضمن فوج جاء من كابل للتدريب وعددهم 165 فردًا فرّ منهم حتى الآن 65 شخصًا.

وقد نزلت بهم الطائرة وسط قصف المجاهدين، وقفزوا منها بسرعة واستدارت فوراً عائدة من حيث أتت. عن “عجب خان مزاري” قالوا إنهم لايعرفونه ولكن سمعوا أنه ذهب إلى كابل، ولا يدرون إن كان جريحًا أو قتيلاً.

محمد دين قال إنه كان في المستشفي عندما وصلته 16 جثة من قتلي معركة تورغار وما حوله وأن الجرحي كثيرون، وأن المواد الغذائية في المدينة قليلة جداً.

وعن معركة ماشغور قال الجنود بأن 15 من كبار ضباط الحكومة قد قتلوا هناك منهم مديـر الاستخبارات(خاد)ومدير الأمن ومدير شئون القبائل. وحسب معلوماتهم فإن المواقع هناك مازلت في أيدي المجاهدين وأن الحكومة مازالت تقصفها.

وعن معركة إسماعيل خيل قالوا بأنه أثناء المعركة فرّ كل سكان المنطقة وما حولها والجنود والميليشيا ولم يبق هناك سوى المدفعية وأن المجاهدين لو استمروا في المعركة ساعتين أخريين لاستولوا على المدينة ذاتها.

وقالوا بأن قتلى الحكومة في تلك المعركة كانوا كثيرين، وأن ثلاث طائرات قد ملئت بالجثث ونقلتها إلى كابول وذلك بعد يومين من المعركة.

وعن تورغار قالوا بأن المجاهدين قد نجحوا قبل المعركتين الأخيرتين على تورغار من قطع طريق الأمداد الخلفي، خاصة بعد أن انفجرت الألغام في مصفحة وسيارة نقل الماء في أواخر ديسمبر الماضي، ومن يومها وإمداد الجبل يتمعلى الأقدام وتحت جنح الظلام.

   دار في رأسي شريط أحداث المعارك الأخيرة، فقد فشل هجومان متتاليان على تورغـار، إضافة إلى فشل في إسماعيل خيل غرب الوادي.

إنها بداية متعثرة للعمل العسكري هذا العام، أما المطار فرغم الخسائر الكبيرة للعدو في الطائرات  إلا أنه مازال ينجح في الهبوط. والمطار يبقى أياماً طويلة بدون أن يهتم به أحد.

 وفجأة يتذكر الجميع فيقع المطار في أزمة وتقع خسائر الطائرات. إنها حالة يمكن تسميتها (بملاريا المطار) أي موجات من الحرارة المرتفعة إلى حد الاشتعال تعقبها برودة إلى حد التجمد.

لكن خسائر العدو كبيرة وحالة الحصار قللت كميات الطعام والذخائر ومستشفى المدينة يئن من ازدحام حالات العسكريين حتى أن البقاء فيه يحتاج إلى واسطة.

 الضباط الحزبيون وحدهم لهم حق البقاء فوق الأسرة لاستكمال العلاج، أما غير الحزبيين أو الجنود فالعناية بهم ناقصة و ينتزعون من فوق أسرتهم ويلقون في عرض الطريق ويتهمون بالتمارض حتى ولو كانت أعضاؤهم ممزقة.

أما الأهالي والميليشيات المحلية فلا أمل لهم في تلقي العلاج الكافي غير أقراص ملونة يستلمونها على باب المستشفي بدون فحص.

رجعت إلى بشاور في الساعة الرابعة عصراً في اليوم الرابع من فبراير لقد عاد لي شيء من حماسي القديم الذي كان في تلك الأيام الخالية في باري والمطار.

 

 

محاولات متتابعة للاغتيال :

الأحد 11 فبراير 1990

وصلت ميرانشاه ومعي عدة نسخ من العدد الأول لمجلتنا منبع الجهاد.

جلست مع أبو الحارث في المكتب الثقافي، وقد أخبرني أن حقاني على وشك الوصول من منطقة خلدن الحدودية، داخل أفغانستان، حيث يعقد عدد من القادة من منظمات مختلفة اجتماعاً طارئاً لمعالجة مشكلة محافظة لوجر.

ولكن الحكومة المؤقتة والأحزاب في بشاور لم تتحرك، فكانت المبادرة من حقاني للبحث عن حل ذاتي من بين قيادات الداخل. وقد وصلت الأنباء بأن القادة المجتمعين قد قرروا إرسال 200 مجاهد لدعم مجاهدي لوجر، وكان حقاني يخشى أن تحاول القوات الحكومية أن تواصل تحركها من جرديز إلى خوست عن طريق (منجل) فيشتت ذلك مجهوده العسكري ضد خوست، ويتحول جزء كبير من قوته للدفاع عن ذلك الطريق الطويل، وهو أمر يحتاج إلى تخصيص جزء كبير من الإمكانات البشرية والمادية.

 ولابد أن يضعف ذلك مجهوده القادم في خوست التي كانت تترنح فعلياً ويترنح تبعاً لذلك مستقبل النظام في كابل بل ومستقبل المشروع الدولي، الأمريكي، في أفغانستان.

 لقد كان حقاني هو المصدر الأساسي لذلك الخطر، لذا كان أمنه الشخصي في خطر.

فقد تلقى حقاني مؤخراً تهديدات من بعض تجار منطقة القبائل الذين تضرروا من عمليات التضييق على تهريب البضائع إلى خوست.

ومنذ أشهر قليلة أحبطت محاولة لتفجير سيارته أثناء توقفها بين بنون وميرانشاه أمام حاجز مروري، فقد لصق أحدهم بها قنبلة مغناطيسية موقوتة.

وبينما كنا نتحدث عن تلك الموضوعات لم نكن ندري أنه في نفس الوقت تقريباً كان حقاني يتعرض لمحاولة اغتيال جديدة، وأصيبت سيارته بعدة طلقات،

وكان يمكن أن يصاب حقاني لو أنه احتفظ بمكانه التقليدي في المقعد خلف السائق، ولكنه كان قد بدل موقعه في السيارة بعد خروجهم من صلاة العصر من مسجد على الطريق.

لم يقص لنا أحد ذلك الخبر المزعج في نفس اليوم فقد تكتم حقاني ورجاله على الأمر، وبعد وصولهم أدخلوا السيارات فوراً في مرآب السيارات. علمنا بالموضوع في عصر اليوم التالي وشاهدت مع أبو الحارث ثقوب الطلقات في الجانب الأيمن للسيارة وعندما سألت حقاني بعدها عما حدث وهل هو حادث مدبر أم لا، قال إنها مجرد مصادفة لأن في نفس المنطقة قبيلتان في حالة عداوة واشتباكات، وأن السيارة الأمامية في موكبه قد توقفت صدفة عندما انفتح فجأة غطاء محركها أثناء المسير فنزل السائق لإغلاقه فانهمر علينا الرصاص لأن أفراد كامنون من القبيلة المعادية ظنوا إننا قوة مهاجمة، فطاردهم رجالي ولكنهم فروا في الجبال.

لم تهدأ شكوكي بطمأنة حقاني، بل ظننت أن سائق السيارة الأمامية قد يكون هو الآخر متآمراً ومن السهل عليه فتح غطاء السيارة أثناء تحركها والغريب أن اختار موقعاً فوق أحد الجسور على الطريق بحيث تصعب مناورة الاختباء على من خلفه وهي سيارة حقاني وحراسه.

قفز إلى ذهني قصف حقاني بالطائرات فوق مركز القيادة وأسفل منه، وبصواريخ سكود في مركز خليل وفي الطريق المؤدية إليه . حتى أنني سمعته بنفسي عندما اشتعل حولنا الجبل بالقذائف العنقودية واشتعلت حولنا الأعشاب الجافة والأشجار حتى أخذنا نسعل من الدخان، لقد صاح بأن هناك جاسوس يرصد حركتهم، وصرت لا أستبعد هذا الاحتمال بل أرجحه.

 

تحميل مجلة الصمود عدد 175 : اضغط هنا

 

الثلاثاء 13 فبراير 90 :

أخبَرَنا حقاني أن كل الترتيبات قد اتخذت لبدء العمليات في الجبهة وأننا سوف نغادر اليوم إلي باري. وغصت دار الضيافة بعشرات من الكومندانات، بينما جلس حقاني في غرفة داخلية صغيرة وكان يستدعي المنتظرين فرداً فرداً أو في مجموعات صغــيرة وينهي معهم الموضوعات المتعلقة بالعملية القادمة، كان حقاني يبدأ مثل تلك الاجتماعات بعد أن ينهي صلاة الضحى في السابعة صباحاً.

استمر ذلك النشاط حتى بعد صلاة الظهر، وتناول الجميع طعام الغداء قبل ذلك. في الثالثة والنصف بدأ تجهيزات الحركة، استعدت سيارة حقاني ومعها سيارتان للحرس مع قافلة كبيرة من سيارات(بيك آب) تحمل مجاهدين و كومندانات وذخائر. كان المنظر مهيباً، وخرج حقاني ومعه أخواه خليل وإبراهيم .عدد من أبنائه الصغار خرجوا لتوديعه، وعلى باب البيت وقفت أمه العجوز وهي تمسك بيدها مسبحتها الطويلة وتتمتم بالدعاء وتجمع الأطفال الصغار من بين السيارات وتدفعهم إلى داخل البيت وهي تؤنبهم بشدة، بينما بعض الأطفال  يحاولون التعلق بالسيارات والذهاب مع آبائهم إلى الجبهة، فاضطرت الجدة العجوز إلى الإمساك بعصا طويلة ومطاردة الصغار وساعدها بعض الحرس في إبعادهم عن عجلات السيارات.

وعندما بدأت السيارات في الحركة رفعت الجدة يديها إلى السماء واستغرقت بالدعاء وقد اغروقت عيناها بالدموع.(كان ذلك من أكثر المواقف الإنسانية تأثيراً والتي شاهدتها في أفغانستان . وقد كتبت عنه بشيء من بالتفصيل).

نقاط الميليشيا على الطريق لا توقف الموكب سوى لثوان معدودة، فالسيارة في المقدمة تتولى شرح الموقف وتقديم المستندات والتصاريح اللازمة، إلى جانب بعض الأموال بطبيعة الحال.

بعد أن عبرنا المركز الحدودي الأخير في غلام خان توقفنا إلى جانب جدول الماء للوضوءوالصلاة، ثم استأنفنا المسير في الوادي المتعرج بين الجبال.

 أوقفتنا غارات الطيران مرتين، مرة غارة بالطائرات النفاثة وأخرى بالقاذفات المروحية الثقيلة. استغرقنا في الطريق وقتاً أكثر من اللازم ولكن وصلنا، بحمد الله، سالمين ودخلنا إلى مسجد معسكر خليل لنلحق بالمصلين في صلاة المغرب خلف مولوي نظام الدين، نائب حقاني.

وبعد الصلاة اجتمعنا في المغارة العليا، وقدم نظام الدين تقريراً عن أحوال الجبهة لهذا اليوم المشمس. فلم يكن غير ضربات الطيران المستمرة منذ الصباح ولكن لاخسائر في الأرواح، ثم حدثه حقاني عن اجتماع خلدن وتحرك المجاهدين صوب لوجار.

صلينا العشاء في مسجد المعسكر، وهناك قضيت الليل البارد فوق الأرضية الأسمنتية، وفي أمثال تلك الأيام المزدحمة يكون الفوز بغطاء هو من علامات رضاء الوالدين ودعواتهما الصالحة. وقد فزت بغطاء، فحمدت الله كثيراً.

 

الأربعاء 14 فبراير 90 :

استيقظنا على أذان الفجر. في خارج المسجد كانت الأرض عبارة عن بساط من الثلج المتجمد من الصعب حفظ التوازن فوقه. ثم توضأنا بماء الجدول المثلج فاحمرت الوجوه والأطراف وانبعث فينا النشاط نتيجة الرجفات المتوالية التي اجتاحت أبداننا. بعد الصلاة صعدنا للقاء حقاني في المغارة العليا، فحملت أمتعتي وصعدت الطريق المتعرج الصاعد إلى المغارة.

كان الجليد مازال منبسطاً على الطريق الصخري الضيق وفجأة حصلت على ما أسميه (سقطة كاملة) وهي تحدث عندما يجد الإنسان قدمه التي وضعها فوق الأرض قد ارتفعت فجأة إلى أعلى من مستوى الرأس، وهو الأمر الذي يؤدي إلى انبساط الظهر بالكامل فوق الأرض، وما يصحب ذلك من صوت الارتطام الذي قد و ربما، يصحبه صوت تأوه مع أصوات ضحكات ممن رأى المشهد المثير،  اعتدلت تم واصلت المسيرة عندما تأكدت أن أياً منعظامي لم يصبه العطب.

كان النهار مشرقاً وذلك في الجبهات نذير شؤم وشر مستطير من غارات الطيران. أفطرنا مع الشيخ حقاني شاياً بالحليب، مشروبنا القوِمي، وعسل نحل من جبال زدران المباركة. وصل خبر من عبد العزيز في مركز اللاسلكي والترصد والقيادة، فقال بأن صاروخي سكود سقطا على منطقة دير ملك ولكن أحداً من المجاهدين لم يصب بأذى. وكذلك استهدف الطيران نفس المنطقة بعدة غارات لم تسفر هي الأخرى عن خسائر.

كانت بداية ساخنة جداً لنهار مازال في ساعته الأولى. هناك ساحة مواجهة لغرفة مبيت حقاني التي هي مغارة صغيرة ملحق بها في نهايتها مخزن صغير ذو باب حديدي مثل أبواب الزنازين، وهذه الزنزانه تستخدم كمخزن للأشياء الهامة جداً، وهي متصلة بواسطة باب صغير بمغارة الضيوف.

في الساحة التي غمرتها أشعة الشمس، وجدت صديقي العزيز مولوي عبدالحليم جالساً مسنداً برأسه إلى الحائط الصخري خلفه، ماداً ساقه الخشبية أمامه، وعلى وجهه ابتسامته الطيبة التي لاتكاد تفارقه في كل الظروف. يذكرني ذلك الشيخ الطيب بجبل تورغار، ومآسيه، فهناك فقد ساقه اليمنى وهو يحاول انتشال شاب عربي يدعى(أبو الدراء) استشهد وسط الألغام بعد محاولة لم تكلل بالنجاح لاقتحام الجبل العنيد.

حاول الشيخ أن ينهض لمعانقتي، ولكنني منعته وعانقته وهو جالس وقبلته فوق رأسه. ولم يلبث أن اجتمع عدد كبير من قيادات الجبهة في الساحة الضيقة وقد توسطهم الشيخ حقاني وإلى جانبه مولوي نظام الدين، والشيخ عبد الحليم. كان الحديث عاماً عن المعارك مع التوصيات بالثبات والجهاد، ولم يتطرق الحديث إلى تفاصيل المعارك الوشيكة.  انصرف التجمع وبدأت لقاءات ثنائية بين حقاني وعـدد من الكومندانات الكبار.

وصلت طائرة استطلاع مروحية على ارتفاع شاهق فوق منطقتنا  وأعقبتها غارات جوية عنيفة على المنطقة من مركز خليل وحتى منطقة تورغار، واستمر ذلك الهم حتى غروب الشمس. تناولنا طعام العشاء في المسجد، وقد وصل ضيفان جديدان من العرب أحدهما أبو محمـدالسوري ، من جماعته أبو الحارث، وبرفقتهشاب سعودي أراه لأول مرة.

 

حقاني: تمايزت الصفوف

الخميس 15 فبراير 90 :

شعرت بسعادة بالغة وأنا أسمع صوت مؤذن المعسكر وهو ينادي لصلاة الفجر فذلك يعني بالنسبة لي انتهاء ليلة من المعاناة وانتظار انتهاء الليل. فالمكان يحاكي في برودته مغارة في القطب الشمالي.

اقترح أبو الحارث أن نصعد إلى مغارة الشيخ لإلقاء التحية، واحتساء كوب من الشاي بالحليب لرفع المعنويات. رافقنا في الرحلة أبو محمد السوري وضيفه السعودي، وعالم من سوهات في باكستان. علمنا من الشيخ حقاني أن المعارك وشيكة، وعلى ما يبدو أن العدو كان يعلم بذلك، وقد بدأ بضربات إجهاضية بالطيران والصواريخ منذ يومين، وقد تقرر أن يغادر أبو الحارث وأبو محمد السوري وضيفه السعودي إلى مركز الدكتور نصرت الله في بـوري خيل (مدخل وادي باري من جهة خوست).

أما الشيخ حقاني والعالم السوهاتي، والعبد الفقير إلى الله فوجهتهم ” جبـل الترصـد”، أي مركز حقاني وقت العمليات، وقبل أن نشرع في التحرك وجه لي حقاني حديثاً بشكل مفاجئ، وشعرت أنه يعاني من ضيق داخلي شديد وهو ينفجر قائلاً: خلال اليومين الماضيين قـالت الإذاعات أشياء كثيرة، منها أن القوة الحكومية قد وصلت إلى جرديز، أما راديو كابول وهيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) فقد قالوا بأن روسيا وأمريكا قد اتفقتا على قطع المعونـات عن نجيب  والمجاهدين، بينما روسيا ترسل في الواقع مئتين وخمسين مليون دولار شهرياً لحكومة نجيب، واستطرد قائلاً بأن هدف الغرب هو إرغام المجاهدين على القبـول بنجـيب رئيساً للبلاد.

وأضاف حقاني قائلاً: لقد اتصل بي زعماء الأحزاب لاسلكياً طالبين مني الذهاب إلى بشاور للاجتماع بهم اليوم، فما هي الفائدة الآن من تلك الاجتماعات؟ وهل نوقف المعركة من أجل إجتماعات لا فائدة فيها

إن المصاريف التي أنفقوها على إنشاء مقارهم في بشاور تكفي الجهاد لمدة عامين، أما السلاح الذي في مخازنهم فيكفي لسنوات، إذا لم يستخدموه الآن، فمتى يستخدموه؟ ولماذا يخزنوه؟

فعند سياف مثلاً 45 ألف بندقية مازالت في الشحم،وفي ظني أنهم  سيستخدمون هـذا السلاح لرشوة القبائل في الانتخابات التي ينادون بها. لماذا لايحضر هؤلاء إلى خوست حتى نتفق على تصعيد القتال في كل أفغانستان؟

إن الذي شجع أمريكا وروسيا على تثبيت نجيب في الرئاسة هو توقف الجهاد في أكثر مناطق أفغانستان، مع وجود حكومه ضعيفة للمجاهدين في باكستان.

إن زوجة جيلاني قالت لإذاعة ( بي بي سي) لقد تعبنا من القتال والدماء، ونريد لشعبنا أن يستريح .أنظر الآن إلى الشيوعيين الذين خدموا الشيوعية لمدة عشرين سنة وإلى الضباط الذين حصلوا على الرتب ليس في مقابل العلم والتدريب ولكن في مقابل قتل المسلمين، وهتك كل الشرائع، كل هؤلاء يقولون عنهم  “مسلمون طيبون” حتى يشاركوا في الحكم القادم للبلاد.

وهنا سأله الشاب السعودي الجديد: ما قولك في اقتراح حكمتيار أن يحدث انقلاب في الجيش يساند حكمتيار في أن يكون رئيساً للبلاد؟

أجاب الشيخ بحده قائلاً: أقسم بالله أقاتله كما أقاتل الشيوعيين، طالما أنه رئيس وحوله هؤلاءالضباط الذين قتلوا المسلمين لمدة عشرين عاماً. إن هذا ليس إلا وصولاً للحكم بأي وسيلة ولو بمساعدة الشيوعيين، مثلما حدث مع داود الذي أحاط به الشيوعيون وعاونوه ثم قتلوه بعد ذلك قلت للشيخ حقاني: لاحل إلا استمرار المعركة مهما كان الأمر وبإذن الله سوف تفتح خوست وعندها سوف تتغير أمور كثيرة.

فرد الشيخ بهدوء وتأثر:هذا صحيح، والظروف الآن عادت كما كانت في بداية الجهاد، وكما كانت في صدر الإسلام، فتمايزت الصفوف ولم يبق في الجهاد سوى المخلصين.

ثم أخبرنا حقاني عن تزايد عمليات فرار الجنود في الأيام العشرة الأخيرة، وكان أعجبها فرار 15 جندياً إلى مركز (حنيف شاه) هؤلاء الجنود لم يفروا بل قاتلوا بعنف حتى يتركوا مواقعهم.

فقتلوا رؤسائهم من الضباط، كما قتلوا الميليشيات التي في المواقع، فقتل من هؤلاء الجنود أربعة أفراد وجرح أربعة آخرون، والعجيب أنهم سحبوا معهم جثث زملائهم، حتى يدفنوها في(مقابر المسلمين)باعتبارهم شهداء، كان حماسهم واندفاعهم للجهاد لايقل بحال عن حماس المجاهدين في الجبهات.

صعدنا إلى جبل الترصد تاركين حقاني في مركز خليل يواصل مقابلاته مع القادة، والإشراف على تموين المراكز المتقدمة بالطعام والذخيرة.

في الثالثه والنصف عصراً أصاب المجاهدون بقذائف المدفعية المخزن الرئيسي للبترول في المدينة فاشتعل وتصاعد منه عمود أسود من الدخان الكثيف واستمر ذلك لمدة ساعة.

غارات الطيران كثيرة جداً، ولكنها غير دقيقه فلم يُبَلِّغ أحد عن وقوع خسائر لديه، أكـثر الغارات تركزت حول جبل تورغار ومنطقة باري ثم ليجاه.

(باري منطقة إسناد للمهاجمين في تورغار. وليجاه تساند مجاهدي الغرب في إسماعيل خيل ودير ملك). بعد العصر هبطت طائرة نقل عسكرية في المطار ولم يكن أحد من رجال المدفعية في الانتظار، وصاح عبد العزيز منادياً(باتشا دينا) مسئول المدفعية في جماعة الكوتشي، ولكنه لم يرد، وبعد صياح وهرج ومرج ضرب أحدهم قذيفة على مدرج المطار فتحركت الطائرة بعد أن قضت 15 دقيقة أنهت فيها عملها. أزعجني الحادث كثيراً فقد كنت مهتماً بالمطار أكثر من أي شيء آخر، وهو اهتمام تاريخي كما ذكرت.

وتأكد لي من هذا الحادث وأشباهه ضرورة تخصيص قطع مدفعية للمطار، تكون جاهزة للعمل على مدار الساعة، ولاتشتبك مع أي هدف آخر حتي لا تترك(فجوة زمنية)ممكن أن يتسلل منها الطيران ويهبط إلى المطار،  وهذا ما فعلناه بعد ذلك بعدة أشهر.

في الليل وبينما كنت أجهز فراش النوم، وصلت سيارة من مركز خليل واستدعاني سائقها لأن حقاني يطلبني، فنزلت معه.هناك كان صحفي بريطاني على وشك إجراء مقابلة مع حقاني، ولم يكن هناك من يستطيع الترجمه غيري. كان الصحفي شاب نحيف يرتدي الثياب الأفغانية له وجهه جامد كأنه منحوت من الحجر الجيري، لايحمل أي تعابير أو مشاعر. كان اسمه(تيم) ويعمل للإذاعة البريطانية، ولإحدى المجلات الأمريكية.

المهم في اللقاء أن الأسئلة التي وجهها (تيم) كانت تعبيرا عن النظرة الجديدة في الغـرب إزاء أفغانستان.

فكان اهتمامه كبيراً بما يحدث في خوست وكونها، ومدينة جرديز، هما المكانان الوحيدان اللذان يشهدان حرباً حقيقة بينما هدأت باقي البلاد.

 

 هل تكفي إمكانات حقاني لفتح خوست؟

ثم يركز عن إمكانات حقاني وهل تكفي لفتح خوست، واستعداده لوقف القتال إذا تمت تسوية بين الحكومة المؤقتة وحكومة نجيب، وفي الأخير ركز بشدة على موضوع زراعة وتجارة المخدرات في أفغانستان، وهو باب فتحه الغرب واسعاً للتشنيع على المجاهدين ثم سأله عن رأيه فيما قاله مولوي (نسيم آخونزاده) القائد القوي في هلمند بأنه سيزرع المخدرات في مناطقه حتى يتمكن من الاستمرار في الجهاد بعد أن توقفت المساعدات الخارجية.

(وهي التصريحات التي أدت إلى اغتيال نسيم أخونزاده بأوامرمن الولايات المتحدة وبتواطؤ من باكستان بل ومن التنظيم التابع له أخوانزاده ).

كانوا في الغرب علي علم بأن معارك خوست، إذا كتب لها النجاح ، فإنها ستغير حتماً من مصير البلاد سياسياً، وأن حقاني هو مصدر خطر لتقرير المصير علي الأرض بقوة السلاح، لذا تعددت محاولات اغتياله في باكستان.

وفي ظني أن حاجة باكستان الأمنية لبقاء حقاني ،نظراً للخطورة الفائقة لولاية باكتيا على استقرار وأمن الأقليم الحدودي الباكستاني، تلك الحاجة الباكستانية كانت أكبر من الحاجة الأمريكية في التخلص من حقاني. لذا تعاونت باكستان بتردد في محاولات الإغتيال القليلة التي حدثت ضد حقاني ومنها تلك التي حدثت منذ أيام قليله قبل معركة تورغار .
قضيت الليلة في مركز خليل على أن نتحرك صباحاً نحو جبل الترصد والقياد، برفقة حقاني وأيضاً الصحفي البريطاني(تيم).

 

تحميل مجلة الصمود عدد 175 : اضغط هنا

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )

www.mafa.world