الجهاد بدون توثيق، مصيبة تهدر الاستفادة مِن كثير مِن الانجازات والتجارب

الحمد لله القائل: ” فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ“، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين

وبعد

الجهاد بدون توثيق، مصيبة تهدر الاستفادة مِن كثير مِن الانجازات والتجارب

توطئة

منذ انطلاق الثورات الفلسطينية وعلى مدار تاريخها كانت ولازالت تعاني من قلة وجود الثائر الكاتب، فلو تتبعنا كل ما تم كتابته وتوثيقه سنلاحظ أن جله قد كُتب من خلال أكاديميين ومحللين ومتابعين لا مقاومين عسكريين ميدانيين، وهذا خلل كبير لأن أحداث الثورات وتطوراتها يجب أن يكتبها من يعايشها ميدانيًا و يصنع الأحداث ويسطر التاريخ  بتضحياته ودمائه و أوقاته.

ولذلك نلاحظ بُعد كثيرٍ من التحاليل والمقالات والمكتوبات عن حقيقة الأحداث ومجرياتها وتطوراتها، وما هذا إلّا لأن الكاتب والمحلل يكتب بناء على المعلومة التي يصل إليها أو تصل إليه، والتي غالبًا تكون معلومة تم ترويجها للخداع والمراوغة أو للكذب على الناس للتغطية على إخفاقات أو تنازلات أو تراجعات ميدانية، ولذا فإن كتاباتهم تبقى ضعيفة قلما تحاكي حقيقة الواقع ومخرجاته.

 أما المجاهد الميداني، خصوصًا الميداني النشيط الصادق فإن توثيقاته توزن بماء الذهب بل أغلى من ذلك لمن أراد الحق والصواب والإصلاح، لأنه-الميداني- مطلع على كثير من تفاصيل الأمور عن قرب ويعيش المتغيرات الميدانية لحظة بلحظة، ومهما حاول القائد السياسي خداع الشعب عمومًا وأبناء حركته خصوصًا فإنه لن يتمكن من خداع الميداني النشيط والفعّال، ولذا فإن كتابات هذا الميداني الفعّال تصيب كبد الحقيقة والتي يتم فهم الواقع منها، ومن ثم يستطيع القارئ الساعي للإصلاح من تمييز الصواب والنجاح من الخطأ والإخفاق على الوجه الحقيقي، وهذا يساعده على فهم سير الأمور بطريقتها الصحيحة والتي تساعده على التفاعل الميداني الصحيح، التفاعل الذي يعزز الصواب والنجاح ويعالج الخطأ والإخفاق، وهذا يجعل المجتمع يعيش حقيقة قضيته ومجريات أمورها، وهذا يساعده على طرح الإصلاحات والحلول المناسبة، كل بحسب اجتهاده واختصاصه. والله الموفق.

بين يدي الموضوع

لذلك نحن بحاجة للثائر الذي يكتب تفاصيل ما يدور معه حين الإعداد للمعارك وأثناء حدوثها ونتائج ذلك وذكر الأخطاء والصواب التي نتجت عن قراراتهم وتخطيطاتهم التي أقاموا العمل على أسسها، كتابة يضع القارئ  فيها في حقيقة الحدث وواقعه بشرط ألا يخل بأمن المقاومة وإعدادها وهذا مقدور عليه وسهل.

كثير من الأحداث مرّت دون أن يستفيد منها أحد وما ذاك إلا لأنهم كانوا يفهمونها على غير حقيقتها وذلك بسبب أن أحد عشاق الكتابة أو محبي التحاليل أو الكتاب الاضطراريين الذين يكتبون لصحف معينة بحكم أنهم يعملون بها وأنه مطلوب منهم كتابة مقال ما في هذا الموضوع أو ذاك.. إلخ، كل ذلك يُصَدِّر الأحداث على غير حقيقتها الكاملة، ولذا نرى أن الأجيال قد وقعت في نفس الأخطاء مرارًا.

توثيق الأحداث في القرآن والسنة وأقوال الصحابة

لقد ذكر الله تعالى لنا كثيرًا من الأحداث ووثقها بطريقة سهلة يسيرة يفهمها العامي والعالم وأمرنا بقراءتها والتمعن فيها للاستفادة منها والاتعاظ  بها، وهذا دليل على أهمية كتابة التاريخ بطريقة واضحة بيّنة حتى يستفيد منها العاملون والأجيال التي تعقبهم، فلا قيمة ولا فائدة لتجارب لا يخطها أصحابها ويوثقونها للأجيال التي ستأتي بعدهم.

ولذلك نجد الكثير من القصص قصها الله علينا وسرد أحداثها بطريقة يسهل على المسلم تتبعها والاستفادة منها، حتى أن الله تعالى جعل ثلث القرآن قصص وما ذاك إلّا لأهمية التاريخ وتوثيقه بصدق وبطرق صحيحة، قال الله تعالى: “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ“، ولقد أرشدنا الله تعالى إلى ذلك بل وأمرنا به حتى لا يضطر العاملون في سبيل الله للاعتماد على مصادر الكافرين أو البحث عن تجاربهم المسطرة والموثقة بطريقتهم والتي غالبها تُكتب وتُوثق بما يخدمهم وبرامجهم العلمية والسياسية والعسكرية.

ففي يوم ادعى اليهود وأشاعوا في كتاب أن النبي عليه صلى الله عليه وسلم أسقط الجزية عن يهود خيبر، وزعموا في الكتاب أن سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وغيرهم شهدوا على ذلك، ولكن عند التحقيق والتدقيق والمراجعة التاريخية تبيَّن أن سعدًا توفي يوم بني قريظة أي قبل خيبر بعامين وأن معاوية أسلم عام الفتح أي بعد خيبر، كما أن هذا الكتاب-كتاب اليهود- لم يذكره أو يوثقه أحد من علماء المسلمين المهتمين بتوثيق أخبار السير والمغازي، وبهذا عُلِم يقينًا أن اليهود هم الذين وضعوا الكتاب وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كلامهم كذب وأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يُسقط الجزية عنهم.

فكان هذا من فوائد كتابة التاريخ وتوثيقه واهتمام المسلمين به.

وهذا يؤكد ضرورة توثيق التاريخ والأحداث والتجارب من خلال المجاهدين الذين عايشوها وصنعوها. والله الموفق.

كتابة التاريخ والتجارب والأحداث وتوثيقها يجب أن يقوم عليها من صنعوها لا غيرهم

فلا يصح أن يبقى المسلمون في حيرة من أمرهم في أمر ما بسبب أن المجاهد يعمل ولا يكتب ويوثق، فإن عزوف المجاهدين عن الكتابة والتوثيق فَتَحَ المجال أمام المتاجرين والانتهازيين للكتابة والتحليل ورسم التاريخ بطريقة تخدمهم ماديًا أو نفوذيًا أو شهرة، والذين يعتمدون الأسلوب وأثره أكثر من المعلومة وصحتها، كما أنهم يكتبون وفي مقدمة ما يسعون إلى تحصيله هو إنجاز الكتاب وإتمامه بطريقة لا تُغضب المتنفذين ماديًا أو ميدانيًا، ولذا ضاعت كثير من الحقائق وتم تزوير الكثير منها كذلك بطريقة تخدم من يملكون النفوذ والقرار والدولار، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

لذا فالواجب على الصادقين الذين يصنعون التاريخ الجهادي والإصلاحي أن يقوموا هم بكتابة التاريخ والتجارب لئلا يتركوا ثغرة يدخل منها المنتفعون أو الانتهازيون والمتاجرون أو الثوار المُزَيَّفون، أو حتى الأعداء الخبيثون. فالله تعالى أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقص القصص على الناس حتى يكون هو صاحب المعلومة الأولى والأساس وهو المَصْدَر والمُصَدِّر للأحداث والتاريخ الذي سيعتمد عليه المسلمون في فهمهم للواقع والأحداث ومجرياتها، قال تعالى: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ“.

ومن المؤسف أنني وجدتُ كثيرًا من الأفاضل يقولون: لا نحب أن نكتب عن أعمالنا شيئًا حتى لا يضيع أجرنا عند الله وحتى لا يدخل الرياء إلى العمل فيحبطه، وهذا والله خطأ عظيم فإن المنهي عنه هو ذكر الأعمال من باب التعالي والرياء والافتخار بها على الآخرين، أما إن كانت الكتابة بصدق وحق وكانت النية سليمة والمقصود بها ترك التجارب والحقائق كما هي للعاملين في سبيل الله والأجيال القادمة فإن هذا أمر محمود وأجره عظيم عند الله تعالى، حتى وإن كان ذكر ذلك التاريخ وتلك الأعمال يعود على الكاتب بشيء من الإجلال والتقدير من الآخرين فإن هذا أمر محمود وليس مذموم، ويبقى الصدق في ذلك من عدمه بين المجاهد وربه حسب النية والتي لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.

 فهذا رسول الله قدوة المتواضعين وسيد الأكرمين وأفضل الخلق أجمعين، يذكر فضله على الناس لما احتاج الأمر ذلك، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: “أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَآخُذُ بِحَلْقَتِهَا فَيَقُولُونَ: مَنْ هَذَا، فَأَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ، فَيَفْتَحُونَ لِي فَأَجِدُ الْجَبَّارَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُسْتَقْبِلِي فَأَسْجُدُ لَهُ فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقُلْ نَسْمَعْ مِنْكَ، وَقُلْ يُقْبَلْ مِنْكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ“.

أخي المجاهد، أكتب فربما جملة تكتبها تنفع بها أمة

بل إن كثيرًا من الأحداث لو تم كتابتها لفتحت بابًا مهمًا للتحريض على الجهاد في سبيل الله تعالى والدعوة والعمل الجاد نصرة للإسلام والمسلمين، فرب جملة أو كلمة بتوفيق الله ينتفع بها خلق كثير. فليكتب المجاهدون وليكن شعارهم: “إنْ أُرِيدَ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ“.

إذن فالأصل في المجاهد أن يكتب تاريخه وتجاربه والأصل فيمن يريدون الجهاد أن يعودوا لتلك التجارب حتى يستفيدوا من نجاحها ويتعلموا من خطئها، لكي لا تتكرر الأخطاء التي وقع فيها مَنْ سَبق، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ“.

يقولو ابن خلدون في كتابه، العبر وديوان المبتدأ والخبر:

فإن فنّ التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتُشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السُّوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال؛ إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأُوَل، تنمو فيها الأقوال وتُضرَبُ فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال.

وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعدّ في علومها وخليق. انتهى.

وفي الختام:

أسأل الله تعالى أن يوفق إخواني المجاهدين في العالم عمومًا وفلسطين خصوصًا وأن ييسر أمورهم، و أن يرزقهم العزيمة التي تعينهم على كتابة تجاربهم وتوثيقها حتى يستفيد منها المسلمون، المعاصرون منهم واللاحقون. والله ولي التوفيق

هذا، والله من وراء القصد

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا

كتبه/ الباحث في الشئون الشرعية والسياسية

تيسير محمد تربان

فلسطين – غزة

المصدر:

مافا السياسي (ادب المطاريد)

www.mafa.world