قصة طبق الأصل : فتنة طائفية فى ترام الإسكندرية

1

صباح ربيعى منعش فى الإسكندرية . وترام الرمل يقف منهكا متوشحا ببقايا من مجده القديم . يقفز الركاب إلى داخل العربات بسرعة ، أملا فى الفوز بمقعد . طلاب الجامعة يفضلون الوقوف قرب الأبواب متحدثين بأصوات مرتفعة . والطالبات يتكومن فى أحد الأركان الفارغة يتضاحكن بسبب أو بدون سبب . شاب مغترب يجلس إلى جوار أبيه العجوز يميل على جاره ليسأله عن محطة الرمل أقريبة هى أم بعيدة ؟؟ . فيطمئنه الجار الطيب إلى أنها فى نهاية الطريق ، فلا داعى للقلق . المحصل ضئيل الحجم يمر وسط الجموع ، وينقر بقلم فى يده على قضيب معدنى لامع معلق فى سقف العربة ، يتشعلق به الركاب الواقفون بين المقاعد .

ــ ورق يا حضرات .. تذاكر .

نقرات خفيفة وتبادل سريع للتذاكر والعملات المعدنية بين المحصل الجاد والركاب الذين يسمعونه تعليقات ساخرة حول زيادة الأجرة إلى الضعف ، من ربع جنيه إلى خمسين قرشا . السبب المعلن كان خرق زرقاء علقتها “المصلحة” على النوافذ . فكانت تمنع رؤية محطات الوقوف ، فأضطر الركاب إلى تنحيتها جانبا أو رفعها فوق النوافذ وهى معقودة على هيئة صرر تفتقر إلى الأناقة . على كل الأحوال ، كان عليهم دفع ثمن تلك الرفاهية ، خاصة وأن هناك لافتة رسمية تقول بأن تلك العربة مميزة وأن رسم الركوب صار نصف جنية . راكب مميز هو الآخر، قفز إلى العربة المميزة دافعا الناس على الجانبين ، ليزرع نفسه فى وسط العربة بين المقاعد وفى مركز الزحام . كان حجمه الضخم يستدعى وقوفه بعيدا فى الأماكن المتسعة على أطراف العربة ، ولكنه إختار الموقع الضيق المتوسط ، فربما يفوز بمقعد فى حال نزول أحد الركاب .

كان منظره ملفتا ، فهو أقرب إلى القصر ، ضخم الجسم ، ذو بطن منتفخ . كان فى الخمسينات من العمر وقد أختلط المشيب بشعره الأسود المجعد . وكان يرتدى (تى شيرت) أبيض تزينه خطوط زرقاء عريضة ، فزاد ذلك من المظهر المتحدى غير المتناسق لكتلته المنتفخة . ذراعاه مكتنزتان باللحم ومكسوتان بشعر كثيف أسود مختلط بالشيب . رأسه ضخم مستدير كثيف الشعر لا يكاد يظهر من ملامح وجهه شئ سوى عينان لامعتان جاحظتان . والمساحة الوحيدة الخالية من الشعر رسمت طريقا فى منتصف الجمجمة ، لامعا عريضا مستويا ، مثل مدرج للطائرات.

وقف الكائن الغريب إلى جوارى ، فشعرت بالخطر وتوجست أن شيئا سيئا سوف يحدث. إنسحبت نحو طرف العربة إلى جانب شباب الجامعة المرحين . وأخذت أراقب الموقف عن بعد ، متنبها إلى كتلة الشر المتمثلة فى ذلك الجسد المشعر الضخم .

إقترب المحصل من الرجل ، وقال له وهو ينقرعلى ظهر مقعد قريب :

ــ تذاكر يا حضرت .

فجاءه صوت عريض مشروخ ، يرد بلا مبالاة :

ــ نازل فى محطة الرمل .

ــ إنزل حيثما تشاء ، ولكن إدفع ثمن التذكرة .

ــ لن أدفع شيئا .. قلت لك أنى نازل فى محطة الرمل .

ــ يا حضرت .. لا بد من دفع ثمن التذكرة ، وإلا فعليك النزول فى المحطة القادمة .

ــ لن أدفع ولن أنزل .. فماذا ترى ؟؟.

إرتفعت أصوات الرجلين فأضطر الجالسون إلى التدخل . وكانوا مستفزين من كتلة الشر المشعرة فراحوا يطالبونه بالإمتثال لما  يقوله المحصل ، إما الدفع وإما مغادرة العربة فى المحطة التالية. بنظرة يتطاير منها الشرر وصوت عريض مشقق ، صرخ كتلة الشر فى وجه المحصل الضئيل المتمسك بواجبات وظيفته :

ــ كانت إسكندرية هادئة وجميلة ونظيفة قبل أن يصلها الفلاحين الأوساخ من أمثالك ، فضايقتمونا فى معايشنا وخربتم بيوتنا وأتلفتم مدينتنا .

جرحت كلماته مشاعر الكثير من الركاب ، فأستجمع أحدهم شجاعته فانبرى له قائلا :

ــ أسكت يازفر يا بياع السمك . الفلاحون هم من بنوا الإسكندرية ومصر كلها .

كلام الفلاح الفصيح جرح مشاعر قطاع آخر من الركاب ، فرد عليه أحد الإسكندرانية الجدعان:

ــ إخرس يافلاح يا معفن ، لا تتطاول على أسيادك الإسكندرانية .

إنفلت العقال وتطايرت الشتائم مثل شظايا القنابل . وأنقسمت العربة بين فلاحين وإسكندرانية ، وضاعت القضية التى بدأ فيها الكلام . الوحش المشعر تحول فى نظر البعض من بلطجى إلى شعار وراية لأهل الإسكندرية . والفلاح الفصيح تزعم أبناء الريف من ركاب العربة . والمحصل المسكين أضحى مزنوقا بين الجماهير الغاضبة ، فضاع صوته واختفت نقراته الرشيقة التى تنبه المتغافلين عن دفع الأجرة . نزل ركاب وصعد آخرون وظلت المعركة مستعرة يتوارثها الصاعد عن الهابط حتى توقف الترام أخيرا فى محطة الرمل .

البلطجى الإسكندرانى هبط من العربة أخيرا ، محاطا بكوكبة من الإسكندرانية المعجبين ببطولته ، معبرين له عن شكرهم لدعم قضيتهم أمام الفلاحين . فى مؤخرة الركب توقف رجل وهو يتحسس جيبه ويسأل فى ذهول عن ” المحفظة ” . نصحة فاعل خير بالعودة إلى العربة للبحث عن محفظته لعلها سقطت “هنا أو هنا ” . صاحبنا لم يكذب خبرا وصعد إلى العربة بسرعة البرق منحنيا فوق المقاعد باحثا بين الأوراق والنفايات التى تركها المسافرون . إكتشف أنه ليس الوحيد ، فهناك ثلاثة رجال على الأقل يبحثون فى نفس العربة عن “محافظ” لن تعود أبدا.

ذهبت متثاقلا إلى بائع الصحف عند طرف المحطة . سحبت نسخة من الجريدة وسرت متفكرا فى فلسفة الفتنة الطائفية .  وكيف أنها تحول اللص البلطجى إلى بطل قومى . وتقسم الجمهور المتآخى إلى فرق متصارعة ، وكيف تكون الفتنة وسيلة لتدوير الثروات وتبادل “المحافظ” .

صحوت من تأملاتى الفلسفية على وطأة قبضة ثقيلة تهوى فوق كتفى ، وصوت أشبه بصوت صاحبنا البلطجى يصرخ بالقرب من أذنى متحديا :

ــ فلوس ” الجرنان” يا أستاذ !!! .

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري

المصدر:
مافا السياسي (ادب المطاريد)

www.mafa.world



1 تعليق

  1. قصة مؤثرة جدا يا استاذ مصطفي
    الواقع ان الجهل هو السائد في مجتمعنا و الجهل هو أفضل سلاح يستخدمه الطغاة لقيادة الشعوب

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا