تأملات فى الأمن القومي المصري ( 3 من 3 )

0

تأملات في الأمن القومى المصرى ) مقال كتبته في الإسكندرية عام 2012 قبل انتخاب الرئيس مرسى . منذ ذلك الوقت أحداث جسام وقعت ودماء كثيرة تدفقت فوق أرض الوادى . يتفق الجميع على أن الأمور منذ 25 يناير 2011 وحتى اللحظة (ديسمبر2016 ) تسير من سئ إلى أسوأ، فاليوم دائما أفضل من الغد ، أما الأمس ـ مهما كان أسودا وبغيضا ـ فهو بالتأكيد أفضل من لحظتنا الكارثية وغدنا الغامض المخيف .

يظل المقال المذكور صالحا وسارى المفعول ، إلا أنه يحتاج إلى إضافات تستفيد من الأحداث الرهيبة التي وقعت في مصر منذ كتابته وحتى الآن ، إضافات سوف تثرى /توضح / تؤكد / ما به من أفكار .

سأحاول مستقبلا كتابة بعض هذه الإضافات ـ والأعمار بيد الله ـ

***

 

 

تأملات فى الأمن القومي المصري ( 3 من 3 )

الخطر الداخلى على الأمن القومى المصرى : نظام التبعية السياسية .

فقدان الإستقلال السياسى بشكل كامل جعل مصر مكبلة بشتى أنواع القيود التى تربطها بالإمبراطورية الأمريكية ، حتى بات الإستقلال الوطنى قضية غير مطروحة فى مصر حتى فى أوساط ثوار يناير بإستثناء عدد محدود جداً من الكتاب الذين أشاروا الى تلك النقطة بشكل عابر لا يكاد يتكرر .
وثيقة الإذعان المسماة (بإتفاقية السلام) مع إسرائيل أصبحت أشد رسوخاً فى الأدبيات السياسية للمعارضة والنظام معا ، وذلك من النوادر فى بلد يشهد خلافاً صاخباً حول الثوابت الدينية بما فيها مقاصد وأحكام الشريعة الإسلامية نفسها.
لقد ترسخت فى الوجدان المصرى / خلال أربعة عقود متصلة / القابلية للتبعية فى كافة المجالات ، وضعف الإحساس بأهمية الإستقلال فى أى شئ ، حتى أنه بعد سقوط رأس النظام تصدت رموز من النخبة المعارضة كى تختار لمصر (نظاماً ديمقراطياً ) مناسباً من نماذج عديدة حول العالم الخارجى بما فيها النموذج الإسرائيلى!! ، وكأن مصر التى أخترعت الدولة المركزية منذ بدء الخليقة باتت عاجزة الآن عن إيجاد نظام حكم يلبى مطالب المصريين فى الكرامة والحرية ومعها مطالب مصر كوطن ودولة تحمل مسئوليات تاريخة وحضارية لا فكاك منها إلا على أيدى نظام متهافت ذليل أمام سادة الخارج ، ولكنه باطش جبار على شعبه ، وتتبادل معه الأدوار نخبه معارضة ذات ضجيج لكنها أسوأ منه حالا.
ثانيا :
من جرائم نظام التبعية:

 

  1 ـ تلويث مياه النيل :
إستكمالا للمجهود الإسرائيلى فى مشروع تعطيش مصر وحجز مياه النيل خلف سدود فى دول المنبع الأفريقية ، نظامنا فى القاهرة ( نظام شرم الشيخ فى حقيقة الأمر) تساهل بشكل متعمد مع كل مجهودات تلويث مياه النيل بالفضلات الآدمية وفتح مجارى الصرف الصحى , ومجارى الفضلات الصناعية السامة ، التى تصب على مدار الساعة فى نهرنا الخالد الذى قصف عمره نظام التبعية وعبدة بقرة ” السلام” المقدس مع إسرائيل .

 

2 ـ  تجويع مصر :
أطلق نظام التبعية العنان لعمليات العدوان على الأراضى الزراعية لصالح البناء بأنواعة .أما وزارة الزراعة نفسها فصارت وكرا إسرائيليا للتآمر على الزراعة لتخريبها بشكل منهجى فتولى أمرها عملاء واضحين لإسرائيل، إستوردوا منها كل المواد التى تؤدى إلى تخريب الأرض والمحاصيل وصحه البشر والحيوانات .
الزراعة هى أهم ركائز الأمن القومى المصرى وهى عنصر متلازم مع مياه النيل . فالماء والأرض تأتى على قمة ضرورات الأمن القومى لهذا البلد ويأتى بعدهما فى الأهمية عناصر الإدارة المدينة والوحدة الوطنية والأمن والدفاع . والجميع يعلم جرائم نظام التبعية فى حق هذه العناصر الحيوية لأمننا القومى .

 
3 ـ  إخراج الجيش من معادلة الأمن القومى  :
( حرب 1973 هى آخر الحروب ) . كلمة قالها السادات فصارت دستورا غير مكتوب . وبما أن الحدود المصرية صارت محصنة بإتفاقية “سلام مقدس” مع عدونا الوجودى الذى لايحترم شيئا سوى أطماعة العدوانية ، فقد خرج الجيش بموجب تلك الكلمة من سياق الدفاع عن حدود الوطن منشغلا بمهام إقتصادية داخل الحدود بما يجعله أقرب إلى ” قوة إستثمار مسلحة” .
إن عدم قدرتنا على إسترداد الحقوق بالقوة لا يستلزم أن نركع تحت أقدام العدو ونتباهى بجعله صديقا إستراتيجيا نعقد معه سلاما أبديا مقدسا . فهناك حلولا كثيرة أخرى لمن أراد حلا ولم تعجبه رياضة الركوع أمام عدوه .
خروج الجيش المصرى من ساحة المواجهة مع إسرائيل أخرجه فى حقيقة الأمر من معادلة الأمن القومى لمصر وترك الباب مفتوحاً على مصراعيه كى تصول إسرائيل وتجول فى المنطقة العربية وبالذات الدول المجاورة لها . فإستباحت لبنان ودخل الجيش الإسرائيلى عاصمتها بيروت وإحتل جزءاً من الجنوب لسنوات.  أما الشعب الفلسطينى فقد نكل به الجيش الإسرائيلى وابتلع أراضيه وقمع تحركاته المدنية ومقاومتة , ومدينه القدس المقدسة قد تهودت عملياً .

ولا نتكلم عن نفاذ إسرائيل إلى عمق الدول العربية بعد إتفاقية ” السلام” .ولا نتكلم عن أفريقيا وما حدث فيها ، ولا عن الكثير من الدول الإسلامية ونشاط إسرائيل الدائر فيها على قدم وساق. لقد حضرت إسرائيل فى كل مكان بينما غابت مصر حتى أن أخطر المناطق تأثيرا على أمنها القومى وهى السودان والقرن الفريقى ودول منابع النيل. بل غاب قادة نظام التبعية عندنا عن كل شئ سوى قهر الشعب وتنمية شئ واحد فى مصر وهو أجهزة “الأمن” وتوسيع صلاحياتها حتى المطلق ، وبيع مصر وضخ الثمن فى أرصدتهم الخاصة فى بنوك العالم . ذلك هو نظام التبعية السياسية الذى أهدر مصر وأفقدها أمنها القومى فى الداخل والخارج .
إختصارا لقد خرجت مصر من المشرق العربى إستراتيجيا لصالح إسرائيل . فالمصالح الإقتصادية والسياسية لا تتحرك بدون قوة ناعمة وأخرى خشنة التى هى القوة المسلحة القادرة على الإستثمار السياسى لقوتها العسكرية وليس فى مجرد الإستثمار الريعى لتلك القوة .
المشرق العربى إنطلقت فيه إسرائيل بلا حسيب أو رقيب . و شاركت فى غزو العراق عام2003 واستثمرت نتائجه لمصالحها . وعلى عكس مقتضيات مصالحنا الوطنية والقومية شارك جيشنا فى الحرب على العراق الشقيق عام 1991 تحت راية الجيش الأمريكي وقائده اليهودى الجنرال “شوارتزكوف” الذى قاد عملية الغزو .
فى سيناء بوابة مصر الشرقية التى تصلنا بقارة آسيا ، تحركاتنا العسكرية والأمنية فيها متوقفة على موافقات إسرائيل وإحتياجاتها الأمنية . وتواجد مصر العسكرى فى سيناء موزون بميزان إسرائيلى دقيق وحساس للغاية . وعمليا يمكن للإسرائيليين إستخدام سيناء كما يشاؤون فى أعمالهم الإستخبارية حتى تحولت سيناء إلى برميل بارود يهدد الأمن القومى لمصر بأشد الأخطار ، وكان من المفترض أن تكون سيناء حصنا لمصر ومنطلقا لقوتها المتدفقة شرقا ، كما كانت دوما عبر التاريخ . إن العرب جميعا يفتقدون ذلك الدور المصرى الحيوى والمتوثب ، ولكن النظام المستذل للخارج يهين شعبة ويهبط إلى الحضيض بالدور التاريخى العظيم لبلاده.
المعونة العسكرية الأمريكية لمصر لا يمكن أن تهدف إلى تقويه الجيش أو النهوض بمستواه فنيا وقتالياً , فذلك يتعارض مع أمن إسرائيل ، لذا فأول أنواع المعونات الأجنبية التى يجب وقفها هى المعونة الأمريكية للجيش المصرى , وبالمثل أى معونة مماثلة للأجهزة الأمنية بأنواعها لأنها معونات تخدش الكرامة المصرية وتمس سيادة مصرعلى تلك الأجهزة الحيوية , وتعتبر تدخلا خطيرا يهدد أمننا القومى .
وكما فى أمريكا وإسرائيل (حلفاء النظام المصرى الإستراتيجيون) يجب أن يكون جيشنا قاطرة قوية بل أساسية فى تطوير العلوم والتكنولوجيا متعددة الإستخدامات فى الصناعات العسكرية والمدنية. فى تلك الدول تزود الجيوش مجتمعاتها بالقوة العلمية والتطور التكنولوجى الرفيع ، ولا تقرض المال لحكوماتها مثلما تفعل الدول المستقلة الصديقة مع بعضها البعض . فالجيش ليس شركة إستثمار ، كما أنه ليس بنكا ، بل هو درع للدفاع وسيف للهجوم وهو أقوى عناصر الأمن القومى والثقل السياسى الخارجى لبلاده .

فمن الضرورى أن تعود الحيوية إلى التصنيع العسكرى والأبحاث والمشاريع النووية والصاروخية ، وفقا لمفهوم دفاعى جديد يضعه مختصون ويناقشه الرأى العام . ذلك المفهوم الدفاعى ينبغى أن يكون دليله نظرية الأمن القومى المصرى وليس الأمن القومى لأى دولة أخرى خاصة إذا كانت عدوا تاريخياً لمصر والعرب والبشرية جميعاً.

 

 

4 ـ  الإلتحاق الأمنى :
بمعنى أن الأمن الداخلى والخارجى لمصر أصبح ملحقا بالأمن الإمبراطوري ومجرد فرع محلى له . الوطأة الأمنية فى الداخل والتى أدت الى ركود سياسى آسن وإضطهاد وإذلال المواطن وتجريف الوطن من عناصر قوته البشرية والمعنوية ، كانت تلبية لمصالح الإمبراطورية المسيطرة لمنع أى تفكير فى تغيير داخلى حقيقى سوى الإصلاحات الهامشية فى ديكورات النظام .

 
5ـ  الإنهيار الإقتصادى :
ـ تم تفكيك الجسم الرئيسى للصناعة المصرية عبر سياسة الخصخصة وتفكيك القطاع العام ونهبه ، وإدارة عملية رشاوى وعمولات وفساد قل نظيرها فى العالم .
ـ الزراعة كانت تهدم بشكل منهجى حتى صارت مصر أكبر مستورد للقمح فى العالم , وفى ذلك تهديد خطير لأمنها القومى .
– السياحة والعمولات وبيع أصول الدوله والإقتصاد الهامشى أصبحت هى الصور الأساسية لإقتصاد مصر . وهو إقصاد لا يلبى مطالب أمة لديها إلتزامات حضارية وتاريخية وتعانى من تدهور خطير فى أوضاعها كافة ومخاطر تهدد صميم وجودها .

 
 6 ـ  الإنهيار التعليمى :
سقطت العملية التعليمية فى مصر منذ زمن . فمدارس الدولة لا تربية فيها ولا تعليم . ومشاريع التعليم الخاص أصبحت إستثمارا تجارياً لا يقدم تعليما حقيقياً. وفى ذلك طعنة قاتلة لمستقبل مصر . ومشاريع التعليم الخارجى ساهمت فى إنقسام المجتمع ثقافيا وطبقيا ، وزادت من “أزمة الهوية” وتشتت ولاء الأجيال الجديدة سياسيا وثقافيا ما بين الوطن وأعداء الوطن .

 
 7 ـ  الإنهيار الصحى :
ـ الخدمات الصحية نالها ما نال غيرها من خدمات أساسية ، فارتفعت أسعار العلاج والأدوية , وإنسحبت الدولة من مجال الخدمات الطبية لصالح تجارة العلاج .
ـ الإنتشار الوبائى للأمراض الخطيرة ثبت أنه يأتى بفعل إسرائيلى متعمد إلى درجة ترقى إلى درجة الحرب البيولوجية غير المعلنه ضد مصر .
جزء من تلك الحرب يتم عبر المبيدات والأسمدة المستوردة من إسرائيل ومصادر أخرى ، وجزء عبر الأدوية ، وجزء آخر يتم نشره بشكل متعمد للقضاء على الزراعة والثروة الحيوانية أو جعلها مصدر عدوى بأمراض مهلكة للإنسان .

ـ تشجيع تلويث مياه النيل عبر سياسات إهمال متعمدة لصرف النفايات الصناعية ومياه الصرف الصحى فى النيل . وتلويث مياه البحر بما يجعل الأسماك البحرية والنيلية وسيلة لنشر الأمراض المزمنة والخطيرة .

 
 8 ـ  الإنهيار القيمى والثقافى :
شيوع ثقافه العنف الشخصى والأسرى وتفش الأمراض الاجتماعية والأخلاقية ، وتسهيل جميع السبل التى تؤدى إلى التخريب الأخلاقى بشتى الذرائع بما فيها الوسائل الحكومية ، وإستخدام أموال الدولة وإمكانتها الإعلامية فى سبيل ذلك.

 
9 ـ   إنهيار المؤسسة الدينية :
ضاع دور الأزهر تماماً, وأصبح أحد مؤسسات دعم سلطة الدولة وتبرير تجاوزاتها والدعاية للحاكم الفرد وتقديسه . ذلك فتح المجال واسعاً لإنتشار الدعوات الدينية الأشد تخلفا وعنفاً . كان ذلك مصحوباً بنفوذ مالى كبير قادم من دول نفط الخليج . بدأ ذلك منذ عقود مع بداية إرهاب دولة عبد الناصر حيث آلاف الشباب تأثروا سلبا بتلك الموجة الدامية فتحولوا إلى التكفير معتمدين على أنفسهم وقدرتهم العلمية المتواضعة فى إستصدار أخطر الأحكام الدينية .
فظهر (الإفتاء الخاص) مع الكثير من الجماعات الإسلامية التى زادت الوضع الدينى تشويشا, والوضع الطائفى توتراً وميلاً إلى العنف وعدم التسامح باستبعاد العقل وإحياء الحماس الغاضب ، فسالت الدماء وعرفت مصر الفتن الطائفية التى زكتها / وكثيرا ما افتعلتها / أجهزة الدولة .
المؤسسة الكنسيه فى المقابل صارت أكثر إنعزالية , وأتباعها أكثر شعوراً بالخطر وإحساساً بالغبن . فطرح البعض مراراً أفكاراً عنفية أو إنفصالية ، لاقت دعماً من عناصر قبطية تعيش فى الولايات المتحدة ومدعومة بنفوذ كل من يهمه أمر إضعاف مصر وضرب أمنها القومى.

إن قيام الأزهر والكنيسة بعملهما الدينى بحرية وفعالية وشفافية وإستقلالية فى المجتمع المصرى هو دعامة أساسية للأمن القومى ، والعكس أيضاً صحيح .

 
 10 ـ   إنتشار وباء المخدرات :
إنتشرت المخدرات بشكل وبائى فى أوساط الشباب . وكمية المخدرات المتداولة فى الشوارع تؤكد أن الأمر يتعدى كثيراً مسألة التهريب لتصبح عملية إستيراد تجارى منظم يشرف عليها الأقوى فى درجات السلطة السياسية والسيادية فى مصر . كما أنها عملية (تصدير) تشرف عليها إسرائيل لتحطيم المجتمع المصرى . فيجب ممارسة البحث “الثورى” الحر للتأكد من ذلك. وهى خطوة أولى للمقاومة والدفاع عن ثروتنا البشرية.  فترويج المخدرات عبر شبكات داخلية مدعومة بأجهزة قوية جداً داخل الدولة وشخصيات لا يطالها القانون ولاتجرؤ حتى الصحافة “الحرة” على الإقتراب منها ، كل ذلك يشكل خطرا من الطراز الأول على أمننا القومى .

 

 

 11 ـ  الفساد الإدارى :
الرشوة والمحسوبية والعمولات وغيرها من أمراض الجهاز الإدارى تهدد أى مشروع للنهضة حيث أن الجهاز البيروقراطى هو أداة أى حكومة لتنفيذ مشروعاتها ، وذلك الفساد كان وراء تبديد ثروات مصر وبيع أصولها الصناعية والعقارية والأثرية.

 
12 ـ   تفشى البطالة :
وهذا نتيجة الإنهيار الإقتصادى الذى أصاب القطاعات الأساسية فى الزراعة والصناعة ، ومع إنتشار المخدرات والتخريب الثقافى والأخلاقى وخروج المؤسسة الدينية من مجال الفعل الإجتماعى ، من هذا كله يمكن أن نتعرف على مصدر وباء البلطجة والدعارة وتفشى المخدرات والجريمة والجاسوسية لصالح من يدفع أكثر سواء كان من الداخل أو الخارج .

 
13 ـ    مأساة التمويل الخارجي :
يتناسى أكثر الناس أن التمويل الخارجى ، بما فيه القروض واجبة السداد ، يستجلب معه نفوذا وتأثيراً خارجيا على القرار السياسى .
ولا توجد دولة أو هيئة تنفق أموالها بلا هدف خاص تسعى إليه . القروض الخارجية فى مصر أصبحت سياسة دولة بل ثقافة سياسية لا تثير حتى التساؤل . والمساعدات الخارجية يكون أول ضحاياها الإستقلال السياسى والإقتصادى , والمساعدات الخارجية للهيئات (السيادية) يعنى خدش تلك السيادة ، ومع الإدمان عليها تضيع السيادة ويحل الفساد والتبعية للخارج مكانها . ولا يخفى الخطر الجسيم الذى يلحق بالأمن القومى من جراء ذلك .
كما أن التمويل الخارجى للأحزاب وهيئات ما يسمى “المجتمع المدنى” والجمعيات الدينة لا يقل ضررا عن التمويل الخارجى للحملات الإنتخابية بأنواعها ، فجميعها عمليات بيع للسيادة الوطنية للممول الخارجى . كما أن تعارض مصالح جهات التمويل الخارجى ينعكس فورا على شكل تصادم بين القوى والجهات المحلية المتلقية للدعم . إننا فى مصر كثيرا ما نعيش حروبا بالوكالة بين الممولين الأجانب تظهر أمامنا فى شكل مهاترات سياسية أو حتى دينية ، وإنقسامات حادة لا تعكس حقيقة الواقع المصرى ومصالحه .
ونخص بالذكر هنا الخلافات بين العلمانيين والإسلاميين الذين لا تعكس خلافاتهم بحال إنقساما فعليا فى المجتمع . فجميع من يتلقون الدعم لا ينطلقون فى مواقفهم من مصالح مصر وأمنها القومى بل ينطلقون من مؤشرات حساباتهم البنكية ورغبات السادة الممولين سواء القاطنين فى الخليج أو فى دول الغرب .
وغنى عن القول أن التمويل الخارجى يحمل بالتأكيد عناصر الإختراق الأمنى وتجنيد العملاء لقوى الخارج ، ولكن يبدو أن ذلك لم يعد يثير مشاعر سيئة ، وربما نظر إليه كثيرون على أنه عمل مباح يتماشى مع سياسة الإنفتاح الأخلاقى والأمنى وسيولة المبادئ بل وإستهجان وجودها أصلا ، على إعتبار أنها حفريات أيدلوجية لعصور مضت  .
إن الإنقسام السياسى وحتى الأيدلوجى على الساحة المصرية يحمل إلى درجة كبيرة سمات “تنوع” مصادر التمويل وصار لكل تيار” تقريبا” جهات تمويله المعروفة .
فبينما التيارات الدينية السياسية تتجه صوب “جزيرة العرب” نرى العلمانيين بأنواعهم تتجه بوصله التمويل عندهم صوب أوروبا والولايات المتحدة.
وطالما إستمر الوضع كذلك فمن المستحيل أن نصل إلى توافق وطنى على أى أساس ، ولا يمكن أن يكون الأمن القومى لمصر موضع إعتبار من أحد هؤلاء .

 
ثورة لا شأن لها بالإقتصاد .. لا شأن لها بالأمن القومى  .
من العجائب ونوادر التاريخ أن “الثورة” المصرية لم تقدم ، حتى الآن ، أى تصور إقتصادى متكامل يحقق لمصر أمنها القومى . وما زال ما يقدمونه يدور حول ما كان قائما وعلى نفس الأسس الإقتصادية لنظام التبعية السياسة والجور الإجتماعى . أى أننا لن نحقق ثورة إقتصادية ولا إجتماعية . فليس هناك عبرة لمشاريع جذابة يعرضها ذلك الطرف الحزبى أو ذاك ، لأن أى مشروع مهما كان ، لا إعتبار له بدون إرتباطه بخطة إقتصادية متكاملة بوصلتها الأساسية هى تحقيقق الأمن القومى المصرى فى مجال الإقتصاد الذى هو البنية التحتية للأمن القومى كله . ذلك الأمن لا يحققه مشروع أو مشروعات منفصلة السياق لا تربطها خطة متكاملة وإستراتيجية إقتصادية وطنية . وغنى عن القول أن النهضة الإقتصادية والإجتماعية للدول العظيمة لا يقوم بها الإقتصاد الهامشى القائم على السياحة والقروض والإستثمار الخارجى ، فذلك هو بالتحديد إقتصاد التبعية السياسية والإرادة المرتهنة للأعداء فى الخارج .
فكما أن للتبعية والإستبداد أساسهما الإقتصادى ، فإن للإستقلال والحرية أساسهما الإقتصادى أيضا، ولكنها أسس مختلفة بقدر إختلاف التبعية والإستبداد عن الإستقلال والحرية

 
وأخيرا : نظرية الأمن القومى .. مشروع لوحدة وطنية حقيقية وعملية

الحل لكل تلك المعضلات وخروجا من كل ذلك التشويش والإضطراب هو أن تجتمع قوى الشعب خلف الإحساس بالخطر للدفاع عن وجودها وحقها فى لقمة عيش كريمة فى وطن كريم ، وحياة حرة فى وطن حر . بلا فاصل بين إحتياجات الفرد وإحتياجات الوطن ، فكلاهما كائن حى يحتاج إلى الحرية كما يحتاج إلى الكرامة والعدالة ولقمة العيش .
فلا يمكن بأى حال أن يتواجد موطن حر كريم فى وطن لا يتمتع بالحرية ولا بالكرامة ، ولن يحصل مواطن على لقمة عيش كافية فى وطن يعجز عن إنتاج القمح لأنه بكل بساطة ممنوع من فعل ذلك بسبب سطوة الخارج وقمع النظام المحلى التابع الذى كبل شعبه بكافة إتفاقات الذل والهوان مع أعدائة.
يجب توضيح تلك الأخطار الحقيقية التى تحيق بنا وتهددنا بالفعل . أى يجب طرح نظرية جديدة للأمن القومى المصرى الحقيقى ، تكون دليلا هاديا للعمل الشعبى كى يجد طريقة للدفاع الفطرى عن الوجود والحقوق الخاصة والعامة لمصر الوطن وللمصريين جميعا . نظرية أمن قومى يحكم بها الشعب على الأحداث الداخلية والخارجية ، ويتمكن بها من تقييم كل من يمارس السياسة أو العمل القيادى فى أى مجال كان وعلى أى مستوى من مستويات المسئولية فى العمل العام .
نظرية حقيقة للأمن القومى المصرى سوف تجمع قوى الشعب للدفاع عن أساسيات الوجود البشرى التى تتخطى الخلافات السياسية والأيدلوجية.

إن كثرة إنشاء الإحزاب ليس إلا حيلة لتمزيق قوى الشعب وإرباك تفكيرة بكثرة الطروحات وتناقضها . ولكن نظرية واحدة للأمن القومى كفيلة بتجميع كل القوى دفاعا عن بقاء الجميع وحرية الجميع وكرامة الجميع .

 
الإستجابة للتحدى = برنامج الثورة
بالإنتهاء من تحديد الخطر ومصادره على أمننا القومى ، فإن الخطوة التالية هى تحديد أدوات وأساليب المواجهة ، وذلك بالضبط هو برنامج عمل الثورة . بمعنى أن برنامج أى ثورة يجب أن يكون إستجابة لتحديات كبرى تجابة أمن ومصير شعب من الشعوب . وأى برنامج للثورة المصرية غير ذلك سيكون قصورا أو عجزا أو سيرا متعمدا بالثورة فى طريق خاطئ ، كل خطوة فيه تأخذ شعب مصر بعيدا عن أهدافه ومصالحه وتعرض مصر نفسها إلى أفدح أخطار الدمار والتخريب التى قد تحولها إلى بقايا دولة ومستنقع صحراوى للفقر والبؤس  .

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري

المصدر:
مافا السياسي (ادب المطاريد)

www.mafa.world

 

 

 



ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا