جلال الدين حقانى .. العالم الفقية .. والمجاهد المجدد 39

بقلم : مصطفي حامد – ابو الوليد المصري

مجلة الصمود الإسلامية | السنة السادسة عشرة – العدد 191 | جمادى الأولى 1443 ھ – ديسمبر 2021 م  .     

16-12-2021

حقانى : العالم الفقيه والمجاهد المجدد. (38)

صـباح الانـتـصـار.. يوم فتح خوست

 

في صباح الأول من أبريل 1991، ظهر وادي خوست والمنطقة من حولنا في خرمتو ولاكان، كأنها مولودة من جديد. كل شيء نظيف ناصع كأنه نزل من الجنة تواً إلى الأرض، ولم تسبق لعين أن رأته أو يد لمسته.

كانت مشاعري مختلطة كأنني أسير في حلم، وكأن كل ما حولي أراه لأول مرة. أنظر إلى الوادي اللامع تحت أشعة شمس الربيع الواهنة، وكل شيء هادئ، وكأن لا حرب مرت من هنا يومًا.

بالطبع تذكرت صديقي عبدالرحمن، وكالعادة دومًا سألتُ نفس السؤال الأبدي: ماذا عساه أن يقول لو كان إلى جانبي الآن؟

أعرف ماذا كان سيقول من موسوعة الصيحات والأهازيج الإسكندرانية التي كان يشدو بها في أيامنا الذهبية في منطقة باري. ابتسمت وطفرت الدموع من عيني.

لم نعد حقيقة نعرف معنى الفرح، حتى الفتوحات العظيمة تجعلنا نبكي، ونضع جباهنا على الأرض حمدا لله، ونتذكّر الشهداء والمعارك القديمة، التي ذهبت مرارتها وبقيت منها ذكرى شجية خاشعة. في المساحات الشاسعة التي أراها الآن من فوق تلال خطنا الأول، الذي أمشي عليه تحت شمس الصباح بلا قلق، كل شجرة وصخرة وقرية وطريق أخذت نصيبها من المعارك والدماء.

كل منها له قائمة الشهداء الخاصة به، والقدماء يعرفونها بالتفصيل. وقفت أنظر إلى الأماكن البعيدة والقريبة وأتذكر شهداءها.

هؤلاء الأحباء الذين رحلوا بتواضع، وبدون أن ينتبهوا هم أنفسهم إلى حقيقة أنهم أبطال!

كان اليوم عيد بكل ما في الكلمة من معنى. يتقابل الجميع بالأحضان والتبريكات، والبسمات المشرقة ـ والذين حولنا من مجموعات جاءوا لزيارتنا وتبادل التهاني بالفتح. وبدأت جلسات تناول الشاي مع الضيوف، مع ما تيسر من بقايا حلوى أو بسكويت حيث أن إمدادنا بالطعام متوقف منذ مدة ليست بسيطة.

أبناء “حاجي عبدالقيوم” هم علية القوم هنا ومن المجاهدين النشيطين. الأكبر هو الضابط كمال وهو صديق قديم لي منذ معركة ليجاه عام 1982م.

وتحول من جماعة حقاني إلى جماعة قلب الدين حكمتيار. أما شقيقه الأصغر”مصطفى” فيعمل مع حقاني. وكلاهما موضع ثقة من جانبنا وكنا نعتبرهم سندنا الوحيد في المنطقة.

في يوم الفتح الأول قدم لنا كمال غرفته الخاصة وكانت محفورة بشكل رائع في هضبة كبيرة مسطحة إلى الشرق من جبل ترصدنا.

قبلناها شاكرين، كي نستأنف فيها فاصل جديد من بلاء عانينا منه لأول وآخر مرة في أفغانستان ذلك هو بلاء “القمّل”. فقد أصابنا القمّل في مغارة الترصد أعلى الجبل بعد يومين من وصولنا. قابلت القمّل في البداية باستهتار ندمت عليه فيما بعد. ولم يكن لدينا شيء نستطيع عمله إزاء هذا الوباء، فقد انتشر وتكاثر بسرعة غير عادية وملأ بيضه كل ثنايا الثياب. ويفقس البيض ويكبر بسرعة بفضل دمائنا التي استنزفها القمّل، أكثر من العدو الذي يقاتلنا بأحدث الأسلحة.

صديقنا أبو كنعان كان يملك ثيابًا إضافية، لذا فقد تمكن من الاستحمام في منتصف مدة المعركة وحرق ثيابه القديمة ولبس ثيابًا جديدة.

وكان سعيدًا أيّما سعادة في ذلك اليوم، وجاء يتباهى علينا بكبرياء ويحرق ثيابه أمامنا كما كانوا يحرقون الساحرات في بلاد الغرب.

لم يكن منّا أحدٌ لديه ثيابًا إضافية، فجميع حاجياتنا تركناها في معسكرنا الخلفي “أبوالعباس” حتى حاصرنا النّهر فلم نستطع استجلاب شيء منها.

شعرنا بشيء من الغيرة من حالة الرفاهية التي هبطت فجأة على صاحبنا، ونحن نمارس رياضة الهرش العنيف فوق عضات القمل على أجسادنا المغطاة بالعرق والأتربة، وقبائل القمل المتوحش تمرح على جلودنا بلا كلل.

ولكن في حياة جماعية كالتي نحياها، يستحيل أن تحلّ المشاكل الفردية إلا بشكل جماعي لذا فإن صاحبنا أبو كنعان لم تدم فرحته كثيرًا بانتصاره على القمل. فعند جلوسنا للعشاء في نفس اليوم. نظر إلينا بانكسار وهو يمدّ يده إلى ظهره في الخلف، ويكحت جلده وهو يقول يائسًا: (يظهر أنه عاد مرة أخرى). بالطبع ضحكنا بشماتة خفية حامدين الله على أننا نملك ملابس احتياطية في مكان ما من الجبهة. بينما خسر هو احتياطيه الاستراتيجي من الملابس.

لكن الإخوة عبدالقيوم في صباح اليوم الأوّل من الفتح أنعما عليه بملابس نظيفة أحضراها من القرية، وأعطياه إياها لأنه كان أكثرنا تبرّمًا من وباء القمل.

لم أفوت فرصة يوم الفتح في بدء معركة جديدة ضد القمّل فذهبت إلى الخط الأوّل من التلال، وانحدرت على الجانب الذي كان معاديًا. واختبأت خلف صخور منيعة، وبدأت فحص ثيابي بدقة مخرجًا أسراب القمّل واحدة فواحدة ثم أهرسها بصخرة صغيرة فوق كتلة من الصخر الأسود الضخم. واستمرت المجزرة حتى الظهيرة، وقد اكتست الصخرة بالدماء وعدت منتصرًا بقيت اليوم سعيدًا نشطا، حتى وقت العشاء حين عادت أسراب القمّل إلى مجاريها فكتمت خيبة أملي عن الجميع حتى لا تهبط روحهم المعنوية.

– مجموعتنا أبقت الراجمتين على أهبة الاستعداد لمدة يومين وليليتين بعد الفتح. وكنت أريد الاستمرار حتى سبعة أيام تحسّبا لأي انقلاب مفاجئ في الموقف. ولكن الضغوط الداخلية حطمت عزيمتي، فألغيت الاستنفار وبدأنا الأعياد والاحتفالات بعد الجميع بيومين.

بعد حوالي أسبوع أردت العودة إلى مركز “أبوالعباس” بعد هذا الانقطاع الطويل، وحتى أتخلص من جيوش القمل وأغير ملابسي وأستحم وأجد شيئا معقولا من الطعام بعد حالة تقشف شديد في جبهتنا الشرقية المحاصرة بطوفان نهر شمل. الفيضان مازال شديدا، قد يخفت شيئا ما لساعات قليلة فكان يجب أن نراقبه جيدا حتى نقتحم أمواجه الغاضبة بسيارتنا المتهالكة.

تحميل مجلة الصمود عدد 191 : اضغط هنا

 

سياحة في أجواء الانتصار

– نظمنا للشباب “رحلات سياحية ” إلى مدينة خوست بعد أن أصبحت في أيدي المجاهدين. كانت مشاهدة المطار الجديد هو الهدف الأساسي من الرحلة، مع توصية بألا يصلوا إلى مركز المدينة” البازار” أو هضبة متون.

كنت متخوفاً من نشوب معارك داخلية بسبب حملات الغلول العنيفة التي تشهدها المدينة، وكانت عيني مازالت على المطار، ومتوجسا من انقلاب مفاجئ في الموقف فنحتاج مرة أخرى إلى التصدي للعدو في المطار ونعيد إغلاقه بالنيران.

في الأخير ذهبت في رحلتي السياحية الخاصة يصحبني زميلي الدائم حاجي إبراهيم الأفغاني، والشابان الرائعان أبوطارق التونسي وأبوكنعان.

مررت في البداية بالتراكتور المعطل المنغرس مثل الراية الحمراء في نهر صغير يخترق صحراء جرداء. إنه جنرال “غرزتور” العتيد، كان موقفه مذريا وعجبت أن العدو لم يدمره طول تلك المدة. ثم مررت بمواقع العدو المواجه لنا وعلى حافة الطريق العام الذي يصل خوست مع جاجي ميدان مرورًا بالمواقع العتيده في جبل ( كوكاراك) وهضبة “أليسار”.

– كنتُ مغرمًا بتفحّص تحصينات العدوّ، كبيرها وصغيرها. وبشكل عام كنت معجبًا بها. فكثيرًا ما كانت تحوي أفكارًا جيدة تصلح لنا أيضًا. ولكن تحصيناتنا كانت غالبًا أضعف، ما عدا في العامين الأخيرين عندما قفز فن حفر المغارات لدينا كمًا ونوعًا على أيدي أبطال محافظة وردك الذين أسماهم نجيب “أبناء الجرذان” ولكنهم كانوا أبطالا بكل ما في الكلمة من معنى وكانوا ضمن الجنود المجهولين خلف هذا الانتصار العظيم في خوست.

تكلمنا في مواضع عدة عن حقيقة أن الجبال تناسب الحرب الدفاعية وأعمال التحصينات، خاصة في الهيئات الحاكمة أي المرتفعات والهضاب التي تتحكم في ممرّات هامة وطرق إجبارية.

مجاهدينا كانوا مقاتلين أشاوس ولكنهم حفارون سيئون، والعكس كان عند العدو، فجنوده حفارون ممتازون ولكنهم مقاتلون تافهون للغاية.

في بداية الحرب كان لدى العدوّ عدد كبير من الضباط الجيدين والمؤهلين والمتحمسين أيديولوجيا، ومع نهاية الحرب تغيّر الحال وأصبح لدى العدوّ عدد أقل من الضباط الجيدين في المراتب العليا، والقليل منهم في المراتب الصغرى.

العكس كان طرف المجاهدين، مع بداية الحرب كانوا يفتقرون تمامًا للخبرة العسكرية والتسليح ولكن كان تفوّقهم ساحقًا في الجانب العقائدي والقوة المعنوية ـ ومع نهاية الحرب تغيّرت الأوضاع أيضًا فالخبرات المتراكمة لدى القيادات الميدانية العالية والمتوسطة كانت كبيرة جدًا.

والجانب الاعتقادي تراجع كثيرًا لصالح حالة “احترافية” لصنعة القتال، زكتها التدخلات الإقليمية والدولية واسعة النطاق. فصار القتال عملًا مربّحًا جدًا وخطيرًا أيضًا. ولكن ذلك يوافق الطبيعة الأفغانية المغامرة والمستهينة بالأخطار والمتطلعة إلى متعة الربح، خاصّة إذا كان على أسنّة الرماح. كل ذلك أضعف طبيعة “الجهاد” وحوله أكثر إلى مفهوم “الحرب بالوكالة “.

– كنت أفكّر في مثل تلك الأفكار وأنا أشاهد خندقًا في الخط الأول عند العدوّ أثار إعجابي. كان عبارة عن شجرة ضخمة قطرها حوالي المترين سقطت من جذورها على الأرض، فبادر العدو إلى حفر خندق تحتها يصلح لرشاش متوسط ومجموعة من الجنود. كانت الأرض زراعية طينية والأمطار حوّلت الخندق إلى بركة طين، إنه مشهد البؤس التقليدي لمواقع الجيش الحكومي لكن موقع الخندق متحكم في الطريق الحيوي الذي يذهب إلى جاجي ميدان كما يتحكم في سهل منبسط يفصله عن المجاهدين. كنت أنظر إليه وأتعجب كيف يمكن التغلّب على هذا الخندق بغير الاستعانة بالدبابة وقذائفها المباشرة المدمّرة؟

لقد انسحب العدوّ من هذا الموقع وغيره كثير بدون قتال، ضمن حالة الانهيار العام لموقفه في المدينة، لكنه ـ كالعادة أيضًا ـ كان قد زرع كمية كبيرة من الألغام على جانبي الطريق المذكور فانفجرت إحدى السيارات الأهلية، ثم سيارة أخرى خلفها حاولت تفاديها فانفجر بها لغم آخر، ثم سيارة ثالثة، ولكن الرابعة و…الألف عبرت بسلام… أنها شجاعة جيوش الغلول التي اندفعت صوب المدينة لا يوقفها شيء. بصعوبة تفادي حقاني حمام دم في المدينة، وضحى بنصيب رجاله من غنائم يستحقونها بعد قتال أكثر من عقدين من الزمان حول المدينة.

المحطة الأهم في جولتنا السياحية كانت في المطار الجديد، حيث دخلناه من الطرف الشرقي المواجه لمواقعنا. وهناك شاهدنا “الإصابة الإعجازية” التي حققناها في تلك الطائرة المنكوبة. كانت محترقة تمامًا، وقذيفتنا قد شطرتها قسمين من خلف مقصورة القيادة التي شاهدنا بداخلها عدة جثث متفحّمة. القسم الخلفي من الطائرة والمخصّص لشحن البضائع أو الأسلحة والجنود، محترق هو الآخر لكنّه كان خاليًا تمامًا إلا من جثة محترقة. وعلى الأرض بعد أمتار قليلة من ذيل الطائرة هناك جسد بشري متفحّم وقد تناثرت أمعاؤه السوداء على جانبيه. وقريب من عجلات الطائرة هناك أشلاء آدمية محترقة.

كان المشهد قاسيًا جدًّا ومأساويًا.

 

تحميل مجلة الصمود عدد 191 : اضغط هنا

 

تحرّكنا بسيارتنا صوب إدارة المطار وهو في منتصف الحافّة الشمالية من المدرج ومكون من عدة مباني صغيرة وسط تجمع ساحر من الأشجار الخضراء.

وهناك سحبت القوات الحكومية الطائرات المصابة لتخفيها عن أعين المجاهدين وجميعها من الطراز الحديث (32ـAN )، وكلها جديدة وتنبعث منها رائحة الدهان. وجدنا تسعة طائرات من هذا الطراز معظمها مصاب إصابات جسيمة واثنان منها أو ثلاثة منشطرة إلى نصفين بنفس الطريقة من خلف كابينة القيادة. وواحدة فقط سليمة تمامًا وهي التي أسرناها في صباح اليوم الأول من الفتح عندما حاولت الفرار من المطار، وكان يقودها جنرال طيار وبداخلها الجنرال”صلح أمل ” المستشار العسكري لنجيب الله رئيس الجمهورية.

هذه هي كل حصيلة ما خسرته القوات الحكومية في المطار الجديد، وعلينا أن نضيف طائرة نقل أخرى أسقطها الشاب البدوي “باتشا دينا” بواسطة صاروخ ستنجر سقطت بعيدًا عن المطار.

وبهذا يكون نصيب البدو إصابة ثلاثة طائرات نقل عسكرية دمّروها قبل بدء معركة الفتح ونصيب مجموعتنا ست طائرات من نفس الطراز دمّرناها أثناء معارك الفتح. ثم تحرّكنا إلى منتصف مدرج الطائرات لنشاهد طائرة الهيلوكبتر العسكرية من طراز (مي/ 24) المحترقة هناك، ولكنّها كانت عبارة عن كومة من الركام الأسود. لقد أسقطها المجاهدون بواسطة صاروخ ستنجر في نهاية المعركة وعندما دخلوا المطار أحرقوها مرتين حتى لم يتبقى منها شيء تقريبًا.

– لفّت نظري في مدرج المطار أنّه مغطّى بطبقة من فتات الصخور السوداء التي تتواجد بكثرة في مجاري الأنهار في أفغانستان عامة، وفي نهر شمل ورافدة الآخر المار من شرق خوست وهو نهر “منجل”. تحيّرت في السر وراء ذلك، خاصة وأن تلك الطبقة غير مضغوطة داخل الأرضية بل متروكة فوقها بشكل حر. فهي تشكل خطورة كبيرة أثناء هبوط وصعود الطائرات لأنها تنطلق مثل الشظايا ويمكن أن تتسبب في جروح خطيرة أو حتى قاتلة للأفراد حول المدرج، بل وتصطدم بعنف بجسم الطائرة نفسه.

على الطرف الغربي للحافة الشمالية للمدرج، كانت هناك سلسلة من الخنادق الضخمة، محفورة كمخازن واسعة مليئة بالذخائر المحترقة من صواريخ وقذائف هاون وخنادق أخرى محترقة ولكن محتوياتها قد أفرغت. وقع ذلك الحريق أثناء عمليتنا ضد المطار القديم.

ثم توجّهنا إلى موضع المدفعية خلف المطار، وكان “المجاهدون” يفرغون محتوياته فتوقفنا عن الزيارة، ورأينا ضابطا طليقا بملابسه العسكرية مازال يعمل في الموقع، لم نهتم بالأمر وانتقلنا نحو بيت ريفي واسع جدًا له سور طيني مرتفع ـ كالعادة في هذه المنطقة ـ كنّا قد رصدنا ذلك البيت قبل بدء العمليات بقليل كمخزن رئيسي للذخائر التي تحضرها الطائرات. تأكد لنا ذلك، ولكنه كان خارج مرمى راجماتنا. وكان من العبث أن نطالب أي أحد بالرماية عليه، فكل موقع لدى المجاهدين لديه ما يشغله وأكثر، ولديه من الذخائر مالا يكاد يكفيه.

عبرنا إليه نهر منجل الصغير ودخلنا البيت ـ أو القلعة كما يسمى عادة ـ وكان واسعًا جدًا بحيث يمكنه استيعاب عشرين شاحنة في ساحته الداخلية، وبه عدة غرف كبيرة ولكن على غير ما توقعنا كان خاليا تمامًا، من كل شيء، لقد تمّ نهبه بكل إخلاص. لم نجد سوى صور لنساء هنديات ملتصقة بالجدران والأبواب، يستعرضن مفاتن مكتنزة ورخيصة، فقام إخواننا بتمزيق وطمس الصور.

تقدمنا على حافة المواقع الحكومية المواجهة للجبال الشمالية. كان هناك عدة قرى في مساحة زراعية واسعة تليها الجبا. كانت منطقة جميلة وهادئة، وتأكد عندي ما كنا نلاحظه منذ فترة طويلة أن لا أحد عكر صفو الحكومة من تلك الجهة.

دخلنا موقعًا حكوميًا كان عبارة عن بيت مبني من الأحجار والإسمنت وليس من الطين. به عدة غرف لها نوافذ زجاجية بعضها محطّم ـ وأمام البيت خندق طويل به مربض لرشاش خفيف ـ وكل شيء منهوب كما هي العادة ولا آثر لأسلحة أو أثاث.

– لم نشأ التوغّل أكثر صوب المدينة وقفلنا عائدين. على حافة الحقول رأيت “جحشا” أسودًا بالغ الصغر، فطلبت من حاجي إبراهيم التوقف حتى أذهب لمشاهدته. كان وحيدًا في ساحة شاسعة من الحشائش البرية، التي لاتخلوا من فرص الموت بالألغام أو القنابل العنقودية التي لم تنفجر. لم يكد الجحش يراني أتقدم نحوه حتى جاءني مسرعًا، وكأنه شعر بتعاطفي معه. كانت عيناه السوداء الواسعة مليئتان بالدموع وتظللهما رموش طويلة وتتدلى بينهما خصلة كبيرة من الشعر الأسود المتهدل.. نظر إلي بحزن ورجاء كأنه يقول لي: (أرجوك خذني معك).

لا أخفي أنني شعرت تجاهه بشعور عاطفي، فوددت لو أنني أخذته، لكنني خشيت أن أنضم بذلك إلى قائمة أبطال الغلول. فتركته آسفًا واستمرينا في المسير.

على الأرض قرب المطار رأيت قطعة بلاستيكية حمراء مثلثة الشكل ولها قائم حديدي قصير ومكتوب عليها حرف ( إم ) بالانجليزية. رجحت أنها كانت إشارة على وجود حقل ألغام ندري أين هو ـ توقفنا وأخذت القطعة ووضعتها فوق هوائي سيارتنا المحطم. فتحوّلت السيارة التعيسة إلى هيئة فخمة كأنها سيارة جنرالات. ولكن “أولاد حارتنا” في ميرانشاه لم يرق لهم الأمر وكأنهم خشوا علينا أن يصيبنا الغرور فانتزعوا قطعة البلاستيك في أول زيارة لنا للمدينة.

كانت رحلتنا مفعمة بالمشاعر المتناقضة. ولكن الحدث الأسوأ كانت تعطل آله التصوير التي معي بينما كنت ألتقط الصور داخل المطار فضاعت مني مشاهد أعتبرها تاريخية.

في المطار أعجبني خندقا، أظنه كان للضباط، وكان عبارة عن حاوية حديدية حفروا لها عميقًا في الأرض وغطوها بالأتربة والصخور. وقصوا لها بابين على حافتها، وكان الدخول والخروج من الحاوية الخندق يتم باستخدام عدّة درجات محفورة في الأرض الطينية. في الحاوية كان هناك صفّان من الأسرة الحديدية لم يتبق منه شيء، ولكن سمعنا بأخبارها.

الإخوة “المتربصين ” الذين استولوا على المطار كدّسوا كل الأسرة الحديدية والخزائن وكل شيء، في تلال رهيبة حتى يبيعونها بالجملة. حتى الطائرات بيعت لتجار الخردة.. وهكذا بيعت أفغانستان.. وبهذه البساطة عادت مرة أخرى إلى ما قبل العصر الحجري.

لم أشاهد المطار القديم إلا بعد ستة أشهر من فتح المدينة، لأني كرهت أن أرى باقي المدينة في حالة النهب الرهيبة تلك.

– كان المطار القديم ملحمة هائلة من الدمار وأظنّها من أكبر مقابر الطائرات التي يمكن لأحد مشاهدتها. أكثر من سبعين طائرة معظمها طائرات نقل عسكرية موجودة على أرض المطار، وبعضها مخبأ حول المطار في أراضي زراعية، وبين الأشجار المحيطة به.

وهناك طائرات أخرى أعطبت لكنها تمكنت من العودة إلى مطار كابول. فكان هناك مقبرة طائرات أكبر من تلك التي في خوست. ولكن معظمها طائرات أعطبت خارج كابول نفسها. أما مقبرة خوست للطائرات فهي مقبرة ” محلية الصنع ” بأيدي المجاهدين أنفسهم من مجموعات متنوعة ـ وأظن أن مجموعتنا العربية كمجموعة منفردة كانت صاحبة المركز الأول، أو أنها تتنافس على ذلك المركز مع مجموعة مفردة أخرى هي مجموعة البدو التابعة للشهيد منان.

(ملاحظة: مصادر أمريكية قالت بأن السوفييت خسروا في أفغانستان ألف وستمئة طائرة حديثة، وأظنها مبالغة أمريكية تعودنا عليها. ولكن يمكن القول أن خسائر السوفييت في الطائرات لم تكن بسيطة كما أنها لم تكن بسبب صاروخ ستنجر كما أردوا إيهام العالم).

تحميل مجلة الصمود عدد 191 : اضغط هنا

 

عبور نهر شمل

– بعد عدة أيام وفي لحظة من ضحى يوم مشرق شكلنا سلسلة بشرية يمسك بعضنا بأيدي بعض وتقدمنا أمام السيارة نسبر غور النهر ويحمي بعضنا بعضا من الانجراف في مياهه السوداء الهادرة.

كان الشباب كلهم من الجدد، و”حاجي إبراهيم ” يقود السيارة وبجانبه أبوكنعان. ولم يكن مناسبا ترك الشباب يقومون بتلك المهمة الخطرة، ونحن كبار القوم في السيارة. فكان واجبي أن أنزل كي أتقدم هذا الطابور المغامر، سعد الشباب الصغار كثيرًا بهذه الشهامة، ولكنني لم أصارحهم بأنني غير سعيد وأنني أفعل ذلك مرغماً. كنّا في غمرات المياه الجارفة نتماسك بالأيدي ونتضاحك ويسقط بعضنا أو يطفوه فيحمله الماء، فنجذبه إلينا مرة أخرى. وبعد المغامرة الخطرة والضاحكة وصلنا بسيارتنا إلى الضفة الأخرى فتجمعنا حول سيارتنا مكبرين وكأننا فتحنا مدينة خوست مرة أخرى.

قرب معسكر أبوالعباس ونحن نخترق بسيارتنا جدول المياه الرائقة العذبة في تعرجات الطريق بين الهضاب ظهر لنا ابني الصغير (عبدالله) الذي ما أن رآني داخل السيارة حتى جحظت عيناه، ولا إراديا ضحك بشكل متحشرج وهو يناديني. فهمت فورًا أنه كان قد فقد الأمل في أن يراني مرة أخرى. لقد ظل في معسكر أبوالعباس أياما طويلة، وحاول مع آخرين اقتحام نهر الشمل للوصول إلينا في جبهتنا الشرقية لكنهم فشلوا ـ ولكنه لم ييأس وظل بشجاعة مصمّما على العثور علي للاطمئنان على صحتي!! كنت غاية التعجب من شجاعته وصلابته، في سنّه المبكرة تلك وكان دون العاشرة من العمر شديد النحافة حتى أنني كنت أداعبه بلقب (دودة اللدودة).

بعد تبادل التحايا والتبريكات والعناق مع أفراد معسكرنا في أبوالعباس وتبادل أخبار الفتح والمشاركين فيه من أفغان وعرب. جلست مع ابني عبدالله وهو يشرح لي مغامراته منذ أن طلب من أمه في ميرانشاه أن يأتي إلى الجبهة “للبحث عني!!” فأذِنَت له، وحتى مغامرته بالأمس حين قصفته طائرة نفاثة بصاروخ (جو/أرض)!!

سألت الشباب عن الموضوع فقال لي أحدهم أنه كان بداخل المغارة حين شاهد عبدالله واقفا على بابها في الخارج، فذهب إليه فوجده ينظر إلى طائرة نفاثة بعيده فوق خوست ثم شاهد صاروخا ينطلق منها ساحبًا خلفه خطاً من الدخان الأبيض. وبسرعة خطف عبدالله تحت إبطه وقفز إلى داخل المغارة، وبينما هما يتدحرجان على تراب أرضها وصل الصاروخ ضاربًا حافة بابها العليا.. ولم يصب أحد!!

– في مغارة الذخائر أجرينا حسابات صرفنا في الذخائر خلال المعركة، فوجدنا أننا أستهلكنا ألف وأربعمئة صاروخ كاتيوشا. بزيادة مقدارها مئتي قذيفة عما استهلكناه في عملية المطار القديم.

بدأت جماعة القاعدة في استلام مهمات مركز أبوالعباس وجميعها كانت قرضا منهم ـ واستعادوا أيضًا فائض الذخائر رغم أن الجزء الأكبر من الذخائر كان لحقاني.

كذلك مهماتنا في الجبهة الشرقية، وكانت أيضًا للقاعدة، سحبوها من هناك عبر وادي خوست الذي صار “إسلاميًا” بعد فتح المدينة ويمكن للمجاهدين التحرك فيه بحرية. كنت لا أكاد أستوعب هذا التغير، وكأنني أسير داخل حلم وليس حقيقة واقعة. وأخيرًا توجّهت إلى ميرانشاه مديرًا ظهري لمركزنا العتيد “أبوالعباس” رمز عملياتنا الرائعة ضد مطارات خوست، تلك العمليات، ليست الأكبر من حيث الحجم، ولكن تأثيرها على فتح خوست كان كبيرًا وملموسًا ـ ذلك الفتح الوحيد من نوعه في تلك الحرب، وذو التأثير الحاسم في تهاوي النّظام.

أدرت ظهري ليس لمركزنا “أبوالعباس” بل لأفضل مشاركتنا العسكرية في تلك الحرب وحتى سقوط أفغانستان فريسة للاحتلال مرة أخرى، ولكن هذه المرة بجيوش أمريكية أوروبية مشتركة. لقد جاءت “روما” كي تثأر لهزيمة “بيزنطة” على يد المجاهدين المسلمين في أفغانستان.

تحميل مجلة الصمود عدد 191 : اضغط هنا

 

بقلم  :
مصطفي حامد – ابو الوليد المصري
المصدر:
مافا السياسي ( ادب المطاريد )

www.mafa.world